تازة:إشكالية ظاهرة الاحتباس الحراري بالمدينة و مسؤولية سياسات التعمير الخاطئة2.


   الجزء الثاني : أهم مميزات الحقبة الاستقلالية الممتدة من 1956 إلى 2015 والتي طبعت مناخ المدينة وحولته في عقود قليلة إلى مناخ شبه صحراوي.

 

في الصفحة الأولى،الجزء الأول من هذا المقال طرح السؤال التالي:

   كيف لمنطقة ذات مواصفات مناخية مماثلة (كالتي تطبع مدينة تازة) أن تفقد من طبيعتها المعتدلة على امتداد عقود قليلة حتى انقلب مناخها فجأة إلى مناخ شبه صحراوي؟

   وجاء الجواب مباشرة كالتالي:

   والجواب بالطبع (الصفحة الثانية من الجزء الأول) أن العوامل الطبيعية المشتركة مع باقي مناطق المغرب والعالم قد لعبت دورا سلبيا أكيدا لكن هذا الدور (وهنا المفاجأة)، يبقى ثانويا أمام العوامل البشرية والمتمثلة أساسا في سياسات التعمير الفاشلة التي انتهجت انتهاجا في حق هذه المدينة وباقي الإقليم والتي تعد في نظرنا السبب الرئيس في انتقال طقس تازة من طقس معتدل إلى طقس شبه صحراوي على امتداد عقود قليلة من الزمن. وتتمة وتوضيحا لهذا الاستنتاج المؤسف سوف نحاول فيما تبقى من فقرات هذا المقال تبيان الخلل والأخطاء المرتكبة طمعا في تشخيص الداء بكل وضوح حتى يتضح العلاج المأمول بكل وضوح أيضا إذا ما أريد لهذه المدينة المغلوبة على أمرها أن تفلت من هذا المصير الحزين ولا أقول القدر، الذي حرمها من أن تنعم ولو في حدود الكرامة الدنيا بجو معتدل يقي سكانها من لسعات عقارب الاحتباس الحراري في فصل الصيف والذي بات يمتد من شهر ابريل إلى شهر أكتوبر من كل سنة أي على امتداد سبعة أشهر من كل عام بالتمام والكمال، مع العلم أن غالبية ساكنة تازة والإقليم تعيش في عزلة تامة مقارنة مع باقي المدن المغربية، فسواء تعلق الأمر بالساكنة الحضرية أم القروية فالأمر سيان و الكل في عزلة الإقصاء يسبحون، فالمدينة و الإقليم برمته يعانيان من شبكة طرقية مهترئة وبنيات تحتية أساسية تكاد تكون منعدمة مما يستحيل مع هذه الظروف تهييئ مساحات ترفيهية أو سياحية أو ثقافية رغم أن المؤهلات السياحية للمدينة و إقليمها تؤهلها لتكون قطبا سياحيا جهويا بامتياز.

أولا- مميزات الحقبة الإستقلالية داخل المجال الحضري:

   على عكس السياسة المتبعة من طرف سلطات الحماية الفرنسية قام القائمون على الشأن المحلي بمدينة تازة منذ استقلال المدينة بنهج سياسة بيئية و عمرانية سرعان ما أبانت عن محدوديتها و ضيق رؤيتها، هذه أهم مميزاتها:

  • عدم خلق مساحات خضراء جديدة داخل المجال الحضري والاكتفاء بالمساحات الخضراء والحدائق التي أنشأتها سلطات الحماية الفرنسية.
  • لم يتم الاعتناء بأغراس وأشجار
  • والحدائق الموروثة عن الحقبة الاستعمارية بالشكل الكافي ولم يتم تعويض الأشجار الشائخة بالنوع و الكم المطلوب.
  • بفعل الامتداد العمراني داخل المجال الحضري تم القضاء على آلاف الأشجار دون تعويضها في أماكن أخرى.
  • من مميزات التجزئات السكنية المحدثة بعد استقلال المدينة ضيق الطرقات (طرقات من فئة 6 أمتار و 8 أمتار و 10 أمتار و نادرا طرقات من فئة 15 ، 20 و30 متر) وغياب المساحات الخضراء. عكس ما كانت تقوم به سلطات الحماية الفرنسية و كمثال على ذلك، يعتبر حي بين جرادي المحدث إبان الفترة الاستعمارية نموذجا حيا في احترام شروط تجزئة الأراضي من شساعة الشوارع وإجبار المنازل على إحداث حدائق خاصة بها وغرس كل الشوارع بأصناف ناجحة من الأشجار مازالت إلى اليوم شاهدة على ذلك.
  • كل الشوارع الأساسية الرئيسية بمدينة تازة كشارع الحسن الثاني و شارع محمد الخامس و شارع مولاي يوسف وشارع ابن خلدون وغيرها تم إحداثها إبان الحماية الفرنسية عندما كانت ساكنة المدينة لا تتجاوز 20.000 نسمة !. وأما بعد الاستقلال و إلى يومنا هذا لم ينشأ أي شارع كبير بالمدينة من حجم الشوارع المذكورة أعلاه بالمدينة على الإطلاق، رغم أن عدد سكان المدينة يقارب الآن 220.000 نسمة .!!!

    إن هذه الملاحظة مهمة جدا باعتبار أن الشوارع الكبيرة هي الشوارع القادرة على احتضان كمية كبيرة من الأشجار المورقة و الأساسية في المساهمة في الحفاظ على النظام البيئي المناخي للمدينة،إذا من هذه الناحية فلا شوارع جديدة أحدثت ولا أحدثت فضاءات جديدة حاضنة للأشجار المورقة،و لا تمت العناية بالشوارع الموروثة عن الحقبة الاستعمارية و لا الحفاظ على أشجارها و العناية بها و تجديدها كلما دعت الضرورة إلى ذلك.(نعم تمت العناية بها و إعادة تشجيرها ولكن بطرق عشوائية بئيسة ) و لأهمية موضوع صيانة الأشجار داخل المجال الحضري و إعادة التشجير نوليه الفقرة التالية :

     إن سياسة ناجحة في التشجير من طرف القائمين عليها تقتضي مايلي :

  • نجاعة اختيار الصنف الملائم للشجرة مع الأخذ بعين الاعتبار نوعية التربة ومواصفات المناخ المحيط.
  • العناية بالشجرة المغروسة وما تتطلبه هذه العناية من سقي و حراسة.

   و بإسقاط هذين المعيارين على سياسة التشجير بمدينة تازة منذ استقلالها نلاحظ مايلي :

  • إخفاق كبير في اختيار نوع الأشجار المغروسة بالمدينة ويتجلى هذا الإخفاق خاصة في إذعان القائمين على سياسة التشجير في المدينة على اختيار نوع من الأشجار يعد أسوء نوع تبتلى به المدينة في تاريخ التشجير بمجالها. إن المتتبع لشان التشجير بمدينة تازة يلاحظ أن المجلس البلدي بالمدينة ومنذ سنة 2000 أي على امتداد 15 سنة قام بتشجير المدينة بنوع من الأشجار لا تخفى عيوبه على هاو في ميدان التشجير فما بالك بمصلحة يجب أن تتوفر على مهندسين مختصين؟؟ ! .و السؤال المطروح الآن : كيف ولم لم تنتبه مصلحة التشجير بالمجلس البلدي للمدينة ولا المجلس البلدي نفسه أن هذا النوع من الأشجار المختار له صفتان سلبيتان إحداهما فقط تكفي للاستغناء عنه بصفة نهائية و الحال أنهم لا يزالون مذعنين في غرس هذا النوع السيئ من الأشجار !!!.
  • الصفة الأولى : رغم السن الكبيرنسبيا لمعظم هذه الأشجار، لا تبدو أنها تنمو بشكل سليم و تظل أشجارا صغيرة الحجم قليلة التوريق، خفيفة الظل رغم طول قامتها، تنمو عموديا أكثر منه أفقيا.
  • الصفة الثانية : وهنا الطامة الكبرى :

إن معظم الأشجار المغروسة تفقد نسبة مهمة من أوراقها في فصل الصيف،أي في عز احتياج مناخ تازة إليها و معه سكان المدينة المكوية جلودهم بسياط الحر ونجد فصل اصفرار الأشجار و لا أقول فصل الخريف قد حل مبكرا في المدينة و بدأت أوراق الأشجار تفقد أوراقها منذ شهر يونيو تقريبا !!!

ثانيا- مميزات الحقبة الاستقلالية خارج المجال الحضري :

  • تذكير:

   كما سبقت الإشارة آنفا، قلنا في الصفحة الرابعة من الجزء الأول من هذا العمل أن سلطات الحماية الفرنسية فطنت مبكرا إلى ضرورة نهج سياسة بيئية استباقية تكون صمام أمان أمام المخاطر المناخية المحدقة بمدينة تازة، فقامت عبر هذه الفترة القصيرة بخلق حزام أخضر شامل يحيط بالمدينة من أربع جهات مع التركيز على الجهة الشرقية مصدر رياح الشركي الصحراوية، المصدر الرئيس للأخطار المناخية المحدقة بالمدينة، لكن و مع الأسف الشديد نلاحظ إجمالا أن فترة الاستقلال قد شهدت تراجعا كبيرا في هذه الرؤية وهذه الإستراتيجية المناخية رغم المجهودات المبذولة من طرف المصالح التابعة لوزارة الفلاحة في الحفاظ على مساحات الغابات المنتشرة خصوصا جنوب المدينة و شمالها (سيما ما تم إنجازه في إطار برنامج المغرب الأخضر)، لكن الحزام الأخضر الذي بدأت معالمه تظهر مع الحقبة الاستعمارية سرعان ما بدأ في الانهيار خاصة من الجهة الشرقية حيث أن الجهات المسؤولة عن قرار توسع المدينة العمراني في اتجاه شرق المدينة كان قرارا استراتيجيا خاطئا مائة بالمائة بينما أن البدائل التوسعية موجودة و متوفرة في مواقع أحسن جغرافيا و بيئيا و اقتصاديا حتى، كما سوف نتطرق له بالتفصيل أسفله.

يعرف السيد شيراز حرز الله ظاهرة الاحتباس الحراري كالتالي: ( موسوعة إقرأ عربي بتاريخ 03.06.2014)

” ُتعرف ظاهرة الاحتباس الحراري بالارتفاع التدريجي في درجات حرارة الطبقة السفلى القريبة من سطح الأرض من الغلاف الجوي المحيط بالأرض.و سبب هذا الارتفاع هو زيادة انبعاث الغازات الدفيئة أو غازات الصوبة الخضراء….

       وعن أسباب التغيرات المناخية غير الطبيعية و المتمثلة أساسا في النشاطات الإنسانية المختلفة فإنه يحصرها في:

  • قطع الأعشاب و إزالة الغابات.
  • استعمال الإنسان للطاقة.

ج- استعمال الإنسان للوقود الأحفوري من نفط و فحم و غاز.”

     و كل هذه العوامل تجتمع في كونها تتسبب في زيادة ثاني أكسيد الكاربون في الجو مما يؤدي في نهاية المطاف إلى ارتفاع في درجة حرارة الجو.

     بإسقاط مقتضيات هذا التعريف على إشكاليات الاحتباس الحراري بمدينة تازة يبرز بالوضوح دور قطع الأعشاب و إزالة الغابات في استفحال خطورة الاحتباس الحراري بمدينة تازة و بلوغه مستويات جد مقلقة بات معها التذكير و الموعظة واجبا بمثابة فرض عين لا فرض كفاية.

     في عددها ليوم 28-06-2010 نشرت جريدة la vie éco مقالا عن حرائق الغابات في إقليم تازة نقوم بترجمة الجزء التالي منه : “ما يقرب من 2957 هكتار من الغابات أحرقت في 204 حريق على مستوى إقليم تازة طيلة العشرية الممتدة من 1999 إلى 2009 حسب المديرية الإقليمية للمياه و الغابات بتازة. و هكذا يكون المعدل السنوي لهذه الحرائق هو 268 هكتار محروق في 18 حريق مع تسجيل رقم قياسي لهذه الحرائق في سنة 2000 ب 2264 هكتار محروق في 34 حريق حسب نفس المصدر !. إن الغابات المتضررة أكثر من هذه الحرائق هي غابات باب أزهر،شيكر،مغراوة،عين عوقة،بركين و فندل ” انتهى.

     يقول السيد احمد ناجي رئيس تحرير جريدةl’opinion في عددها ليوم 09-03-2010 مايلي : “إن الغابة المغربية في تناقص مستمر،و إن الجفاف له دور كبير لكن الإنسان سبّب للغابة أضرارا كبيرة … “. إن المغرب قد يعرف ارتفاعا في درجات الحرارة من 2 إلى 5 درجات و نقصانا في التساقطات المطرية ما بين 5 و 40 % في أفق 2070 خاصة في منطقة الأطلس المتوسط (و المقصود هنا طبعا المناطق الجنوبية لمدينة تازة خاصة) حسب تصريح السيد عبد اللطيف الحافي المندوب السامي للمياه و الغابات.

     هذه بعض الإحصائيات فقط، وهناك عشرات المؤشرات الأخرى التي باتت تشكل ناقوس خطر وجب قرعه وبشدة لعله يصل إلى أذان صاغية وهو المبتغى من هذا العمل.

ب . أهم مميزات فترة الاستقلال على المستوى البيئي و الغابوي خارج المجال الحضري:

  • من الجهة الجنوبية الغربية :

   تراجع خطير للغطاء الغابوي و عدم القدرة على صيانته و الحفاظ عليه و إنمائه و ما المعطيات المؤسفة المذكورة في المقالين الصحفيين أعلاه و معطيات أخرى تم القفز عليها رغبة في الاختصار،إلا تأكيد على هذا التراجع الكبير في الحفاظ على الموروث الغابوي الهام، ليس فقط على المستوى المحلي بل على المستوى الوطني ككل. ولعل أكبر خطر يترصد بالغابات الموجودة جنوب المدينة وخاصة تلك الموجودة في المنتزه الوطني لتازكة آفة الحرائق و الحطب القانوني بنفسه و غير القانوني بالإضافة إلى الرعي الممارس في المنطقة من طرف ساكنة فقيرة معدمة إلا من فلاحة بدائية و رؤوس أغنام ومعز تعيش من تجارتها.

 

  • من الجهة الشمالية :

   باتت الغابات المتواجدة شمال المدينة فوق مرتفعات الريف و خاصة تايناست والكوزات و اكزناية و أجدير و بورقبة و أكنول و تيزي وسلي وحد امسيلة تعاني نفس المخاطر رغم المجهودات المبذولة من القائمين على الشأن الغابوي بالمنطقة و التي تعاني أساسا من نقص في الإمكانيات البشرية و التقنية والإمكانيات المادية و هذه خاصية ينفرد بها إقليم مدينة تازة عن باقي الأقاليم المغربية سواء تعلق الأمر بالغابة أو البنية التحتية أو قطاع التعليم أو الصحة أو السياحة أو الصناعة.من هذه الناحية فلنكن مطمئني البال فإن إقليم مدينة تازة بات متصدرا في كل ما يتعلق بالأرقام السلبية للتنمية المستدامة و المندمجة من :

  • هشاشة اجتماعية و تفكك أسري و تشرد الأطفال و استفحال ظاهرة التسول.
  • فقر مدقع داخل و خارج المجال الحضري.
  • بطالة قياسية قروية و حضرية خاصة في أوساط الشباب و استفحال ظاهرة الباعة المتجولين.
  • بنية تحتية منعدمة و إن وجدت فمتهالكة.
  • هجرة معاكسة لمختلف شرائح الساكنة حضرية و قروية إلى مختلف باقي الأقاليم المغربية و خارج المغرب.

   و رجوعا إلى موضوع الجهة الشمالية قلنا في الصفحة السابعة من الجزء الثاني أن سلطات الحماية الفرنسية قامت بإنشاء مساحات واسعة من الغابات في الجبال الخلفية لمقدمة جبال الريف انطلاقا من اكزناية و تايناست ،فيما بقيت الجبال المحاذية لمدينة تازة عارية و تبدو واضحة جلية للعين المجردة بمجرد الإطلال عليها من المدينة القديمة.إن ستة عقود من الاستقلال لم تكن كافية في أعين المسؤولين على الشأن المحلي للمدينة لكي يبادروا إلى غرسها بالأشجار المناسبة، إذ أن هذه المنطقة لو شجرت في الوقت المناسب لكانت ساهمت بشكل فعال في مكافحة ظاهرة رياح الشركي الآتية من الشرق و خاصة من جهة طريق الحسيمة في مدخل مدينة تازة انطلاقا من الحسيمة و أكنول. قلنا أن كل هذه المنطقة المشكلة لمقدمة جبال الريف و المحيطة بالمدينة انطلاقا من طريق الحسيمة شرقا حتى جبل ميمونة غربا بقيت عارية مقفرة رغم وجود مياه أودية في سفوحها، حيث يمر وادي تازة ووادي السبت باستثناء جبل ميمونة الذي قامت السلطات الوصية بغرسه بشجر الزيتون منذ مدة تزيد عن عقدين، و على أهمية هذا الإجراء يبقى في حد ذاته إجراء بسيطا بالمقارنة مع ما تبقى من هذه السلسلة الجبلية لمقدمة جبال الريف و التي بقيت عارية في عرضة دائمة لعوامل التعرية الطبيعية ناهيك عن البشرية،وعلى ذكر عوامل التعرية البشرية لابد من الوقوف هنا و تسجيل ملاحظة هامة تتعلق بجبل ميمونة،الانجاز الوحيد الذي استفاد من عملية التشجير .

  • مهزلة جبل ميمونة :

   ما كاد التازيون يفرحون بتشجير جبل ميمونة الجبل الريفي الوحيد من ضمن الجبال الريفية المحيطة بالمدينة من جهة الشمال،حتى فوجؤوا بثعبان خطير انطلق من سفح الجبل فتحرك في اتجاه قمة الجبل نافثا بإسمنته و آجوره الأحمر في كل من اعترض طريقه من شجر أو حجر في منظر تشمئز منه النفوس : بنيان عشوائي في واضحة النهار و حلكة سواده على السواء و على مرآى من ساكنة المدينة و مجلسها البلدي،إن المطل من الأسوار القديمة للمدينة العتيقة من جهة الشمال يطل على منظر طبيعي خلاب حيث يستقر في قعر السفح وادي تازة و بعده مباشرة تنطلق مقدمة جبال الريف و قد توسطها جبل ميمونة والذي بدوره توسطه حي عشوائي عبارة عن ركام من الأجور و الإسمنت يدعو إلى الشفقة والحسرة تضامنا مع هؤلاء النزلاء على هذا الحي البئيس، فهم على كل حال ضحية اعتبارات سياسوية، انتخابوية و اقتصادية ضيقة. أنا شخصيا و على امتداد العقدين الأخيرين كنت أتوقع من الجهات المسؤولة أن تقوم على الأقل بمحاصرة الظاهرة و التشديد على عدم إضافة بنايات جديدة تمهيدا لترحيل الساكنة البئيسة كما يتم التعامل مع الحالات المشابهة في باقي المدن المغربية، لكنني فوجئت بالبناء العشوائي يتضاعف مرات و مرات بشكل بشع خاصة منذ سنة 2011.و المفاجأة الكبرى التي باغتتني كمواطن مراقب عن بعد وعلى عكس كل التوقعات قام المجلس البلدي بتزويد الحي المذكور بالإنارة العمومية وربطه بشبكة الكهرباء و شبكة الماء الصالح للشرب و حتى تبليط بعض الطرقات !!!.

   هذا الموقف المتخاذل في خدش وجه المدينة في أحسن المواقع الطبيعية والتي من المفروض أن تحتضن مشاريع سياحية متناسبة تماما مع المواصفات الطبيعية كالمسابح مثلا وكذلك بعض المنشآت العمومية كالمعاهد المهنية والجامعية العليا والمنشآت الرياضية والملاعب، لكن القائمين على الشأن المحلي كان لهم رأي آخر فأبوا إلا أن يطبعوا مع هذا الوضع الشاذ والصارخ في وجه ساكنة تازة الذين يطلون كل يوم من أعلى أسوار المدينة العتيقة على هذا المشهد المخزي والذي سوف يظل وصمة عار على جبين كل سكان المدينة مسؤولين وغير مسؤولين (انظر الصورة).

  • من الجهة الشرقية:

     لم يكن مصير الجهة الشرقية بأحسن حال مما آل إليه الوضع في الجهات الجنوبية الغربية والشمالية، بل إن الأخطاء التعميرية وسياسة التعمير المتبعة بذات المنطقة خاصة منذ سبعينات القرن الماضي كانت أخطاء إستراتيجية قاتلة تسببت بصفة رئيسية في اكتساح رياح الشركي الصحراوية كل المدينة و التسبب في ارتفاع مهول لمعدلات الحرارة العليا المسجلة بالمدينة منذ السبعينات مع تطور تصاعدي بلغ مداه خلال العقد الحالي والآتي أسوء في ظل المعطيات الحالية والتي نحاول جاهدين عبر هذا العمل قرع ناقوس الخطر المحدق قبل فوات الأوان !

     وعودة إلى موضوع المنطقة الشرقية نقول أن أخطاء إستراتيجية من المنظور التنموي- البيئي ارتكبت في حق المنطقة الشرقية وذلك بالقضاء على الحزام الأخضر الذي كان يحيط بالمدينة والموروث عن الحقبة الاستعمارية مع الأسف الشديد.

     في حقبة الاستعمار فطنت السلطات الفرنسية مبكرا إلى أهمية الخصوصية المناخية للمنطقة الشرقية وما تشكله من خطر على مستقبل المدينة وأجيالها القادمة فقامت عن قصد أو عن غير قصد بنهج سياسة بيئية ومناخية وفلاحية استباقية تمثلت أساسا في خلق ضيعات فلاحية مغروسة بمختلف أنواع الأشجار وخاصة المثمرة وعلى رأسها ضيعات كروم العنب والتي من خصائصها توريق أغصانها في فصل الصيف حيث تكون مكتملة التوريق ومستعدة لمواجهة رياح الشركي عبر تلطيفها و مهادنتها على امتداد مساحات شاسعة قبل الوصول إلى مدينة تازة وقد فقد ت الكثير من سخونتها ولفحات حرارتها، هذا دون أن ننسى ماكان لإنتاج كميات هامة من العنب الممتاز من فوائد اقتصادية على المنطقة خاصة تشغيل اليد العاملة المحلية.

   منذ السبعينات تقرر إنشاء أحياء سكنية كبيرة متمثلة في أحياء القدس I ، II وIII وأحياء المسيرة I و II وبطبيعة الحال على حساب أجود الأراضي الفلاحية خصوبة و عطاء وبصفة موازية شُرع رسميا في تدمير جزء كبير من الحزام الأخضر المحيط بالمدينة من الجهة الشرقية، ثم بعد ذلك توافقت المجالس البلدية المتعاقبة على تسيير شؤون المدينة على تكريس هذه السياسة العمرانية التوسعية الخاطئة وذلك بمنح رخص تجزئات فيما تبقى من المناطق الفلاحية المجاورة لأحياء القدس والمسيرة.

   و هكذا رأينا كيف خلقت هذه السياسة القصيرة النظر تهافتا عقاريا غير مسبوق على كل المناطق المجاورة وخاصة على امتداد الطريق الوطنية في اتجاه مدينة وجدة و بطبيعة الحال نُفّذت هذه السياسة المعمارية التوسعية على ما تبقى من أراضي فلاحية منضوية في شكل تعاونيات فلاحية و بدأنا في مشاهدة مسلسل رهيب أتى على ما تبقى من أجود الأراضي الفلاحية. إنك بطبيعة الحال لا تستطيع أن تمنع الفلاحين المنخرطين في تعاونيات فلاحية من مقاومة الإغراء العقاري الذي يمثله تحويل تعاونيتهم الفلاحية إلى تجزئات سكنية. ومما سهل عملية هذا المسلسل الرهيب، تفويت أراضي التعاونيات الفلاحية إلى المنخرطين فيها والذين سرعان ما فوتوها إلى المنعشين و المجزئين العقاريين، فكان ما كان وبين ليلة وضحاها، اتخذ قرار إدماج هذه الأراضي الفلاحية داخل المجال الحضري للمدينة وتمت العملية ومازال هذا المسلسل الرهيب مستمرا في إفراغ المدينة من أهم مؤسساتها ومنشآتها الاقتصادية والإدارية على قلتها نحو الجهة الشرقية للمدينة في مشهد يكاد يكون هجرة جماعية للمدينة نفسها وما تشتمل عليه من مؤسسات ومنشآت نحو شرق المدينة و آخر المهجرين المحكمة الابتدائية بعد محكمة الاستئناف !.

   إن مسؤولية الجيل الحالي بالمدينة خاصة من نخب مثقفة وسياسية ومجتمع مدني وسلطات محلية ومنتخبين محليين و برلمانيين مطالبة اليوم قبل الغد بتضامن فريد من نوعه ومتناغم مع السياسة العليا للبلاد والتي يقودها صاحب الجلالة على كافة تراب المملكة، فلا يعقل أن تستثنى مدينة عريقة تاريخية وأصيلة كمدينة تازة، مدينة معزولة ومقصية من كافة البرامج والمشاريع و الأوراش الكبرى التي يعرفها المغرب بأكمله دون مدينة تازة.

و بهذه المناسبة أدعو جميع التازيين أن يضعوا خلافاتهم السياسية و المصلحية جانبا و إلى تغليب مصلحة المدينة و جعلها فوق كل اعتبار و إلى المثابرة و التآزر من اجل إخراج البرنامج التنموي المندمج لمدينة تازة تحت رعاية ملكية على غرار ما تم تحقيقه في كثير من المدن المغربية، لأنه و بدون هكذا برنامج طموح سوف تبقى المدينة على حالتها الراهنة. في هذا الإطار تقوم مجموعة من فعاليات المجتمع المدني التازي حاليا بإنشاء جمعية مدنية هدفها الأساس إخراج برنامج التأهيل الحضري المندمج للمدينة سوف يصل صداه قراء تازة 24 في القريب العاجل إن شاء الله و على صفحات جريدة تازة 24 نفسها. و في الختام ترقبوا الجزء الثالث و الأخير من موضوع إشكالية الاحتباس الحراري في المدينة في الأيام القادمة إن شاء الله و به بعض المعالم العريضة لما يجب أن تكون عليه خارطة طريق نحو إخراج البرنامج التنموي المندمج لمدينة تازة و به حلول واقعية لمجابهة حقيقية لإشكالية الاحتباس الحراري بالمدينة بناء على ما تم تشخيصه في الجزئين الأول والثاني من هذا العمل.

عبد الله الأزرق

خبير قضائي في الحسابات

 

تعليق واحد على “تازة:إشكالية ظاهرة الاحتباس الحراري بالمدينة و مسؤولية سياسات التعمير الخاطئة2.”

  1. Ahmed yassine

    موضوع يهم كل التازيين و التازيات و على كل واحد منا تحمل مسؤوليته اتجاه هذا الموضوع الخطير و ذلك بالإفصاح عن رأيه بكل تجرد و موضوعية وقد أعرب من أنذر