.
يوسف العزوزي.
طالب باحث بسلك الماجيستير بالجامعة الإسلامية الأمريكية بمينيسوطا
مقدمة.
يشكل العقل من المنظور الإسلامي المكون الثالث للجهاز النفسي إلى جانب النفس و القلب و الروح، إذ لكل واحد من هذه المكونات الأربعة تأثير على الآخر ، و تتظافر كلها لإضفاء السكينة و الطمأنينة على الفرد (إدريس الشاهدي الوزاني 2007 ).
و يرد العقل في القرآن الكريم بصيغة فعلية في تسعة و أربعين آية و يستخدم كأداة برهان ذات وظيفة معرفية و آلة للإدراك.
و يستلزم إعمال العقل بهذا المعني وجوبا مصفاة قلبية إيمانية تؤطره حماية له من كل زيغ حفاظا على الإنسانية جمعاء ، و يمكن تشبيه العقل بتقنية ذهنية رياضية أو منطقية ، و القلب بالضابط للمنطلقات الموجه لاختيارات العقل ، و يترتب عن هذا الاختيار مسؤولية منح النفس السكينة و الطمأنينة أو العكس.
و على ضوء هذه البنية يمكن أن نعتبر أن المنظور الغربي الوضعي اشتغل على العقل كتقنية بنفس الأدوات الإبيستيمولوجية التي اعتمدها كمنطلق في توجيه هذه التقنية و غايات استعمالها. في حين انتهج مؤسسو المنظور الإسلامي أسلوبا علميا دقيقا في طرح المبادئ النفسية من خلال توضيح العلاقة بين الشقين المادي و الروحي المكونين للإنسان ، فاشتغلوا علي العقل بأدوات إيبيستيمولوجية مغايرة للإدوات الإبيستيمولوجية التي اشتغلوا فيها على الروح و القلب . تماما كالفرق بين الأدوات الإبيستيمولوجية المستعملة في معرفة الظواهر الماكرو فزيائية (حركة الأجسام) و الظواهر الميكروفزيائية (حركة الإليكترونات).
و لتوضيح هذه العلاقة في مجال العلاج النفسي يمكننا الاستشهاد بالعلاج المعرفي السلوكي المؤسس على منهج عقلي تجريبي ، و العلاج من منظور إسلامي مؤسس على العودة إلى الفطرة السليمة من أجل البحث عن السكينة و الطمأنينة.
و لمقاربة العلاج من المنظورين اخترت الاستشهاد بسورة الناس لأنها تقوم على مفهوم ” الوسواس” لقربه من المفهوم الذي يقوم عليه العلاج المعرفي السلوكي هو ” الأفكار الآلية المشوهة”
و قبل ذلك لا بد من الرجوع إلي مفهوم العقل من المنظور الإسلامي و المنظور الوضعي .
- العقل من المنظور الوضعي:
إن كلمة عقل ( المشتقة من الكلمة اللاتينية Ratio التي تعني حساب أو منهج أو القدرة علي الاستدلال أو حكم يقابلها بالإغرييقية كلمة لوغوس Logos التي تعني لغة، كلام، أساس، سبب) يمكن أن تتخد معنيين : معنى موضوعي و معنى ذاتي ، فقد تعني الأساس الذي يقوم عليه استتنتاج وجود الأشياء و قد تعني الملكة التي تعمل على اكتشاف الحقائق و الربط ما بينها .
و لا ينظر الفلاسفة إلى طبيعة العقل بمنظور موحد فمنهم العقلانيون “ديكارت” و منهم التجريبيون “جون لوك” و منهن العقلانيون الجدد”باشلار” و منهم اللاعقلانيون “نيتشيه”
- الأطروحة العقلانية (ديكارت نموذجا) :
يقدم ديكارت العقل بوصفه ملكة للتفكير و الحكم ،لكن إذا كان الإنسان يتميز بالعقل و إذا كان العقل هو أعدل قسمة بين الناس ، فكيف نفسر أن هذا العقل لا يتم تشغيله من طرف الجميع أو لا يتم استعماله على الوجه الأصح .عن هذا السؤال يقدم ديكارت تصور العقل فاعلا لا يتحقق إلا حينما يتحقق المنهج و النظام و المنهج صنيع العقل . هكذا يؤسس ديكارت جميع المعارف على “الكوجيطو” ما دام هذا الأخير يؤسس تطبيقا لقواعد المنهج التي تنطلق من الأفكار الفطرية لتأمين اليقين و الثبات للحقائق المتنوعة .
- أطروحة “لوك”:
يرى جون لوج بأن التدرع بخداع الحواس و عدم يقينيتها و نسبيتها لا يشكل دليلا كافيا لإقصائها ، بل يمكن القول بأن العقل ليس إبن ذاته ، بل هو إبن التجربة و الاعتقاد في فطرية العقل خاطئ ، لهذا وجب دحضه باستعارة مفادها أن العقل كصفحة بيضاء يخط عليها القلم عبارات و كلمات ذات معنى وهكذا تنطبع على العقل الأفكار و المفاهيم عن طريق الحواس لأن الإنسان يخرج إلى هذه الحياة و عقله عبارة عن لوح مصقول لا يتضمن أي أفكار قبلية سابقة على التجربة بما في ذلك المبادئ المنطقية.
ج) أطروحة العقلانية االجديدة “باشلار”:
إن القول بثبات العلم هو ما صار العلم المعاصر يطعن فيه و قد تم ذلك علي نحوين يمكن اختصارهما فيما يلي :
+أولا: بتقدم العلوم الإنسانية و على الخصوص العلوم التاريخية و الاجتماعية و الإثنوغرافية تعزز الاعتقاد لدى العلماء بأن االعقل ظاهرة كباقي الظواهر يصيبه ما يصيبها من تبدل و ينطبق عليه ما ينطبق عليها من تاريخية.
+ ثانيا: إن هدم عقل الثابت و المطلق هو ما أرشدتنا إليه العلوم الحقة (الرياضيات، المنطق الفزياء..) التي يستخدم فيها العقل كأداة بناء للمعرفة العلمية .
فتطور الرياضيات أدى إلى هدم مفهوم البداهة المؤسس للعقلانية الديكارتية كما أن تطور الفزياء و إثبات نسبية المقولات الكانطية أدى إلى هدمها ، و مع قيام الفزياء الكوانتية بدأ أثر الثورة العلمية المعاصر يمس المبادئ الداخلية للعقل .
و كان من نتائج هذه المرجعيات ظهور تزعة عقلانية جديدة بزعامة “باشلار ” الذي وصف امتلاك ديكارت لمنهج العقل بالغرور.
د) الأطروحة اللاعقلانية (نيتشيه):
تشكل مرحلة نيتشيه مرحلة للشك في العقل، حيث رفض هذا الأخير المفاهيم التي بنيت عليها الثقافة الغربية كمفهوم العقل منطلقا من كون الإنسان حيوان قبل كل شيء ، إنه ليس عقل يتحكم في جسم بل الإنسان جسم يستعمل العقل كأداة للوصول إلى أهدافه الغريزية و بهذا المعنى يصبح العقل عاجزا عن خلق أي قيمة مرتبطة بالحياة . و ذهب نيتشيه في نفس اتجاه فرود الذي رأى بأن إنتاجات العقل تبريرات خلقها الإنسان لمعارضة رغباته الغريزية .
إن هذا الطابع النقدي لأطروحة نيتشيه هو ما يجعلنا نقول بأنه أدخل اللاعقل في العقل بنفس الشكل الذي ادخل فيه فرود اللاوعي في الوعي أي اللاشعور في الشعور.
- العقل من المنظور الإسلامي:
- العقل في القرآن و السنة:
وردت مادت (عقل) في القرآن الكريم بصيغتها الفعلية في تسع و أربعين آية و حين نستعرض الآيات التي تذيل بكلمة يعقلون نجدها تلفت النظر إلى حركة الطبيعة و أسرارها و لغز الحياة و الموت …”و ما يعقلها إلا العالمون” (العنكبوت ص 43 ).
الإنسان حسب القرآن الكريم خلق للعبادة دون أن يعني ذلك اختزال العبادة في الصلاة و قراءة القرآن الكريم لأن العمل عبادة و طلب العلم عبادة و الصدق عبادة و الإخلاص في العمل عبادة و المعاملات مع الناس عبادة و تربية الأبناء عبادة ….”و ما خلق الجن و الإنس إلا ليعبدون”(الذريان ص 56 ) فكل حياة الإنسان يجب أن تكون لهذه الغاية ، الجسد متمثلا في الجوارح و الإحساس ، و الروح بتأثيرها على الجسد و القلب و النفس.. ” أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون،إن هم كالانعام بل هم أضل سبيلا”(الفرقان 44).
كما يجب على القوب أن تعقل “أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم لقوب يعقلون بها، أو آذان يسمعون بها ، فإنها لا تعمى الأبصار ، و لكن تعمى القلوب التي في الصدور”(الحج 46) .
أوضحت هذه الآية أن من القلوب من يعقل و منها من لا يعقل و أن السمع و البصر يتجاوز القدرة الوظيفية للانتباه إلى وظيفة عاقلة و نحن بهذا المنظور ،نتجاوز البعد البيولوجي للسمع و البصر و العمليات المعرفية إلى البعد الإنسان الذي يتحمل مسؤولية الأمانة التي حمله الله إياها لتعمير الأرض و تنزيل قيم الحرية و المساواة و العدل لمجتمعاتها و السكينة و الطمأنينة لأفرادها ..
- درجات الصحة العقلية في المنظور الإسلامي :
تنضوي تحت وظيفة العقل خصائص الإدراك و التمييز و الحافظة و الفهم ، و ترتبط هذه الخصائص بالإيمان الذي هو من وظائف القلب إذ أن الآيات الكونية الدالة على الخالق أول من تخاطب “الذين يعقلون”. ثم ينتقل الخطاب إلى الذين يتذكرون و إلى الذين يتفكرون و لأولي الألباب و أولي النهى و إلى ذوي الحلم …و كلها درجات للرقي في وظيفة العقل من إدراك و فهم و تمييز .
- العلاج النفسي بين الأفكار الآلية المشوهة في المقاربة السلوكية المعرفية و الوسواس الخناس في سورة الناس.
1) العلاج السلوكي المعرفي بتصحيح الأفكار الآلية المشوهة
يعتبر العلاج العقلاني الانفعالي لإيليس الاضطرابات النفسية ناتجة عن منظومة فكرية غير منطقية و من بينها عالم الحتميات مثل (لا بد و يجب و يتحتم )
تزامن هذا التيار مع الثورة المعرفية (1990-1970)التي أكدت على أهمية المعرفة الواعية ، في هذا السياق بحث “ألبير إليس” (1962) في أنظمة المعتقدات الغير العقلانية الواعية أو القبل-واعية للمريض لتغييرها، و توصل إلى خلاصة عامة مفادها أن السلوك العصبي هو سلوك تم إرساؤه من طرف شخص ذكي، و ينبعث هذا الشذوذ من صورة مضخمة عن الذات، و يهدف العلاج إلى التقبل الغير المشروط للذات، إذ يجب على المريض عدم عدم تحميل نفسه أحكاما تخص جوهره، كأن يقول علـى سبيل المثال :”أنا فاشل” و أن يعتبر بالمقابل أن الحواذث المرتبطة به نسبية، بأن يقول أنا فشلت في يوم كذا أو امتحان كذا…. و اقترح إيليس مقاربة نفعية لإعادة البناء المعرفية. و شكلت مدرسته انطلاقة الاتجاه السلوكي المعرفي .
و يعتبر” إيليس” أن وضعية المعالج النفسي دائمة المواجهة مع الذوات في دروبها الوجودية، الخاضعة لمنطق السؤال كلما زاغ الاتجاه نحو وضعية مستفزة للانفعالات السلبية الدائمة.
ترك هذا النموذج التاريخي تدريجيا المجال أمام نموذج معرفي أكثر تطورا و تكاملا (Mahony1974) مبني على التحليل التجريبي لمعالجة المعلومة و الدراسة الإكلينيكية للخطاطات المعرفية، و مختلف المتلازمات و اضطرابات الشخصية (Beeck et coll 1974).
و في بداية السبعينات كذلك ظهر الاهتمام بالسيرورات الانفعالية ووصف” بيك و كول1947″ بشكل واضح المنهجية التي سمحت لهما ببناء نسق علاجي نفسي يرتبط بالانفعالات السلبية. فعند فحص العلاج المعرفي للاكتئاب نجد الحصص الأولى تترصد الكشف عن الانفعالات و العواطف و ربطها بالأفكار و السلوكات.، و على المعالج أن يشرح للمريض ماذا نقصد بالأفكار الآلية المشوهة ، أي أن الأمر يتعلق بفكرة أو صورة ذهنية قد تكون خارج الوعي و تؤثر بشكل قهري من خلال مضمونها السلبي.
- الوسواس في سورة الناس:
يقترب مفهوم الأفكار الآلية المشوهة أو السلبية كثيرا من مفهوم الوسواس أيا كان مصدره ظاهرا او خفيا ، واعيا أو غير واعي فهو يسبب اضطرابا نفسيا بلغة علم النفس الوضعي أو “شرا” بلغة القرآن و أيا كانت الأسماء فالمُسمى هو المعاناة النفسية المؤذية للفرد و المجتمع .
إلا أن مقاربة علاج الوسواس في سورة الناس تختلف عن مقاربة علاج الأفكار الآلية المشوهة في المقاربة السلوكية المعرفية ، لأن الأول يقتضي العودة إلى رب الناس ملك الناس إله الناس أي بالإضافة إلى رسالة الأهمية التي توليها السورة لكلمة الناس و تكرارها فهي تشير إلى العودة إلى الإيمان بالله سبيلا لبلوغ السكينة و الطمأنينة ليكون العلاج طويلا و ممتدا يشمل كل مكونات الجهاز النفسي و يرخي بظلاله عليها.
و لا يقتصر على زمن قصير كما هو الشأن بالنسبة للعلاج السلوكي المعرفي أو غيره من العلاجات الني تُسمى عادة العلاجات القصيرة.
و يمكننا في هذا السياق أن نصف أن ما توصلت إليه مختبرات علم النفس في مجال العلاج المعرفي السلوكي بالتقدم الجيد الذي يحتاج إلى تزويده بمنطلقات البحث عن السكينة و الطمأنينة التي يجب علي المعالج أن يستعين بها عند اختياره لهذا العلاج أو ذاك حتي يشمل العلاج المكونات الأربعة للجهاز النفسي للشخص ..