مقومات البحث التاريخي والكتابة التاريخية من خلال: قراءة تحليلية وتقويمية لكتاب “تازة على عهد الحماية: مقاومة القبائل للاستعمار الفرنسي البرانس نموذجا 1912-1956″، لصاحبه د. عبد السلام انويكة (الحلقة الأولى)
الحلقة الثانية في العدد 18 من دريدة الوطنية
ذ.محمد الحسناوي، مفتش تربوي ثانوي/ المديرية الإقليمية لوزارة التربية الوطنية تازة.
تسعى هذه الورقة إلى ممارسة نوع في القراءة التحليلية والتقويمية لمضمون الكتاب السالف الذكر من الناحية والمعرفية الاسبتمولوجية والتي من شأنها أن تحفز على الصرامة العلمية في البحث والتناول المنهجي وهي قراءة هادفة وبعيدة عن المجاملة والمحاباة، حيث تتوق إلى الكشف عن أسباب العطب ومواطن الخلل التي تطال هذا الكتاب على مستوى المنهج والرؤية للزمن وبناء الموضوع وقد تحلق في المقابل نقاشا مثمرا حول موضوع ما أو مفهوم ما.. كما تتوق هذه المتابعة إلى تصحيح الكثير من المعطيات وتقويمها وقطع الطريق على أشباه الباحثين.
إن هذه القراءة لا تتغيأ الخوض في إشكالية ماهية التاريخ والجدل الاسبتمولوجي حوله، بقدر ما تستهدف الوقوف عند ما عرفته الاسطغرافيا المعاصرة من مستجدات وطفرات من حيث تجدد التيمات والمقاربات والمناهج والرؤية للزمن وبناء الموضوعات ….من جهة ومدى استحضارها من طرف صاحب الكتاب من جهة ثانية.
لاحتواء أطراف هذه القراءة / المتابعة، انطلقت من طرح التساؤلات التالية:
- ما مدى وعي وإدراك صاحب الكتاب للتحولات العميقة التي عرفتها الاسطغرافيا المعاصرة على المستوى المنهجي والمعرفي الابستمولوجي على الصعيد الغربي والوطني؟ وهل تمكن من تبيئة هي المستجدات مع مضمون بحثه؟
- إلى أي حد احترم الباحث (صاحب الكتاب) مقومات وضوابط البحث التاريخي المعاصر وخطواته المنهجية؟
- إلى أي حد استطاع الارتقاء بمستوى أدائه المنهجي؟ هل تمكن من تجاوز سقف الباحث الوضعاني الذي يعتمد المقاربة الأفقية الوفية للتعاقبات الخطية بدل المقاربة القائمة على سبر الأغوار وتعدد مستويات التحليل حسب المنظور الفوكودي (نسبة لفوكو) ومن ثم القدرة على الارتقاء إلى مستوى التاريخ – المشكلة histoire-problème بدل التاريخ الرواية histoire historisant .
- بما أن المعرفة التاريخية لا تتم إلا من خلال المفهمة conecptualisation ، حسب بول فاين veyne ولوبليك lepellec، كيف حضرت المفاهيم التاريخية المهيكلة وكيف تم توظيفها من طرف صاحب الكتاب؟ هل تم توظيفها كأدوات ضرورية تسمح بالانتقال إلى مستوى التفسير والتنظير وبالتالي تسمح بالانتقال من مستوى الحدث إلى البنية؟ أم ظلت مفاهيم صورية وذات شحنات دلالية منخفضة باتت عبارة عن أفهومات notions ومصطلحات مدرسية بسيطة؟
- ما هي القضايا والجوانب التي تضفي على هذا الكتاب بعدا إجرائيا يحفز على القراءة والمتابعة؟ وما الذي يضفي عليه صفة التفرد والتجديد ومسحة التميز؟
- ما موقع هذا الكتاب ضمن حركية التأليف التاريخي المونوغرافي بالمغرب؟
وما هي الضمانات الإجرائية (منهجيا واسبتمولوجيا) التي ستسمح له بالصمود أمام الإنتاجات الرهينة؟
- ما هو السقف المنشود لهذه المونوغرافية هل تجاوزت مستوى التركيم إلى مستوى التركيب، ذلك المستوى الذي لا زال يشكل عقدة في البحث المونوغرافي بالمغرب، كما يرى الدكتور حبيدة؟
لكن قبل استعراض الإجابات عن هذه التساؤلات المركزية، لا بد من إبداء مجموعة من الملاحظات:
– الإقرار بأن هذه القراءة/ المتابعة تمت من خلال ما يسمى “بالقراءات المحايثة” أو “القراءات بالوساطة ” ومستندة إلى مرجعيات متعددة.
– زئبقية الأفكار وغياب خط منهجي واضح وناظم للمحتويات ومكونات الكتاب المذكور، حيث يكون القارئ أمام هذا الكتاب كمن يحاول القبض على الريح، أو كمن يحاول رصد “مسار الذبابة” فيصاب بالعي وعدم الرضى.
إن المقتضيات المنهجية التي تفرضها عملية قراءة كتاب في التاريخ تستوجب بالضرورة الإلمام بالمستجدات والتحولات العميقة التي عرفها مجال البحث التاريخي والكتابة التاريخية المعاصرة.
إن الإجابة عن التساؤلات المطروحة سلفا، لن تتم بشكل قمطري أو مدرسي وإنما سترد بشكل ضمني عبر متابعة مضمون الكتاب/موضوع القراءة من خلال الوقوف عند المستويات التالية :
- مستوى المنهج
- مستوى التحقيب
- مستوى المفاهيم
- مستوى المرجعيات والمضامين والإحالات والبيبلوغرافيا المعتمدة
وآمل من خلال هذه القراءة النقدية، التحليلية والتقويمية المتواضعة، إلى جانب ما تم ذكره سلفا، أن تبرز مستويات التقاطع والتنافر بين المقتضيات والشروط المنهجية والابستمولوجية التي تتطلبها الكتابة التاريخية الراهنة ومضامين الكتاب موضوع هذه القراءة.
– أن تكون قراءة ذات جدوى وتخلف تغذية راجعة لدى القارئ المحترف والقارئ المستنير.
– أن تعمل ن على إقدار القارئ على موضعة الباحث (صاحب الكتاب) في إحدى الخانتين:
- خانة الباحث “الطائر” الذي يسمح ولا ينفذ أو يغور (أي الباحث الذي اعتمد المقاربة الوضعانية، الأفقية…)
- خانة الباحث “العشاب” الذي ينقب ويبحث عن الجذور (المقاربة العمودية، الشمولية….)
– إقدار القارئ على تصنيف الكتاب (موضوع هذه المتابعة) على إدراجه إما : في خانة المونوغرافيات الرصينة يغري بالقراءة والتثمين أو في خانة الإنتاجات الضعيفة القيمة، سمينة في الظاهر لكنها غير مجدية في الباطن ومن ثم تبقى موضوع استهجان ونفور.
على مستوى المنهج :
يقول مارو H.I. Marrou: “القلق حول منهجية صائبة أفضل من قلق حول منهجية غائبة” ينطبق ذلك تماما على منهج صاحب الكتاب، ذلك أن مقومات البحث التاريخي منعدمة كليا، فمن المعلوم أن منهج الباحث في التاريخ يتشكل من خطوات إجرائية والغورتيمات متكاملة تمثل في :
تحديد الإشكالية، الاستكشاف الوثائقي، التعريف والتفسير، التركيب، والمفهة، علما بأن هذه الخطوات ما هي إلا عمليات إجرائية نظرا للتداخل الموجود فيما بين عناصرها، ونظرا لعدم تصور خطوة دون الاعتماد على الخطوات الأخرى، فهي بمثابة مكونات متداخلة ومتكاملة، فإذا فقد مقوم أو عنصر من عناصرها، عندها، لا يمكن أن نتحدث عن منهج المؤرخ أو الباحث.
فكيف الحال إذا فقدت كل المقومات وخطوات البحث، في الكتاب موضوع القراءة؟
وعلى المستوى المنهجي، فإن اختيار أي موضوع للدراسة لا بد له من بواعث يقول Marrou “على الباحث/المؤرخ أن يقنع القارئ لماذا أو كيف اختار وحدد موضوع بحثه، وما الذي يريد البحث عنه “.
فما هي بواعث موضوع صاحب الكتاب؟
لقد حددها في الآتي:
- وفرة رصيد وثائقي مكتوب
- رصيد من المواد الشفوية
- رغبة الباحث الشخصية في التعريف بقبيلة البرانس
- الاسهام في إغناء الذاكرة الجماعية
- توثيق أعمال ثلة من الرجال المقاومين
يتضح من خلال هذه البواعث، غياب مقوم أساسي في عمل الباحث، بل هو نقطة الانطلاق في كل عمل تاريخي ألا وهو الإشكالية، ذلك إن كل بحث يتضمن قدرا من التنظير والتركيب لا تنفصل إجرائية المصادر والمراجع عن إجرائية الإشكالية والفرضيات التي ينطلق منها، فإذا تم تغييب أو تجاهل هذه التقاطعات فإن الباحث سيزلق حتما إلى ممارسات تتميز بالمجهود التوثيقي غير المعقلن ومن ثم يخوض غمار هذه المراجع بدون إشكالية، ومعلوم أنه إذا كانت نقطة الانطلاق مجهولة لدى الباحث (الاشكالية) فإن نقطة الوصول ستكون حتما مجهولة أيضا، لذلك نلاحظ أن صاحب الكتاب لم يدل القارئ على السقف المنشود لهذا البحث، وإلى أين يريد الوصول؟ وما هي حدوده؟
إن الانطلاق من إشكالية محددة في كل بحث تاريخي بات مطلبا أساسيا، يسمح للباحث بالتحرر من سطوة الأنماط التقليدية الجاهزة والأحكام المسبقة وفتح المجال لطرق جديدة في البحث والتنقيب … ذلك أن الواقعة التاريخية تبنى وتشيد انطلاقا من إشكالية ما في تصور جديد للزمان التاريخي.
ينطلق التفكير التاريخي من تحديد الإشكالية قبل جمع الوثائق والشواهد، لأن قيمة هذه الوثائق والشواهد تحددها قيمة الإشكالية المطروحة.
إن المنهج التاريخي السليم ينطلق من أسئلة/تساؤلات موجهة لعمل الباحث صوب التنقيب المنظم والمكثف …. فدراسة التاريخ انطلاقا من إشكاليات أصبح أفقا أساسيا للباحث في التاريخ لذلك يؤكد Acton “على ضرورة دراسة الإشكاليات في التاريخ بدل الاستغراق في دراسة الحقب الزمنية”.
إن الإشكالية في التاريخ هي محاولة إعادة ترتيب الماضي انطلاقا من علاقة الحاضر بالماضي، وتأتي الإشكالية كمرحلة أولية في كل منهج تاريخي تحمل في طياتها كل القضايا التي تؤطر البحث من بواعث وأهداف وانشغالات وتساؤلات وإكراهات ….. بالإضافة لكونها تعبر عن شخصية الباحث، وتتأطر بثلاثة أبعاد هي: الزمن والمجال والمجتمع، ونسعى من خلالها إلى تشكيل تساؤلات ووضع افتراضات باعتماد الوسائل التي تمكننا من بلوغ الوقائع والحقائق.
أصبح من اللازم على الباحث في التاريخ التعامل مع المعرفة التاريخية من خلال التفاعل مع الظاهرة التاريخية بمنهج إشكالي/نقدي، يسائل الوثيقة يسائل الخبر ويسائل الرواية، خاصة وإن الكتابة التاريخية في جوهر ها عملية ذهنية من خلالها يعمل الباحث على إعادة استحضار وبناء وقائع الماضي.
أن أخذ النصوص على عواهنها دون نقد أو تحليل أو تمحيص أو مساءلة يجعل الباحث يتيه في التعميمات والتسطيح، ويستنتج أحكاما مهزوزة عارية من روح الموضوعية والواقعية التاريخية، وقد يخذم الزيف التاريخي ….
وكل ذلك ينطبق على الكتاب موضوع القراءة، حيث تغيب مقومات المنهج التاريخي، والمساءلة.
إن جمع الأخبار والوقائع دون تمحيصها ووضعها في سياق فكري معين، عمل غير ذي جدوى في كل دراسة تاريخية، لذلك وصف Montesquieu المؤرخين الذين يقومون بهذه العملية (جمع الأخبار فقط) بـ “الجا