السيميولوجيا


د. جميل حمداوي/ الرافد

يعد المنهج السيميولوجي من أهم المناهج النقدية المعاصرة التي وظفت لمقاربة جميع الخطابات النصية، ورصد كل الأنشطة البشرية بالتفكيك والتركيب، والتحليل والتأويل، بغية البحث عن آليات إنتاج المعنى ، وكيفية إفراز الدلالة، وذلك عبر مساءلة أشكال المضامين، مع سبر أغوار البنيات العميقة دلالة ومنطقاً، وذلك من أجل فهم وتفسير تعدد البنى النصية على مستوى البنية السطحية تركيباً وخطاباً. ومن ثم، فالمنهج السيميولوجي يهدف إلى استكشاف البنيات الدلالية التي تتضمنها الخطابات والأنشطة البشرية بنية ودلالة ومقصدية، والبحث عن الأنظمة التواصلية تقعيداً وتجريداً ووظيفة. كما تعمد السيميولوجيا إلى وضع قواعد مجردة كونية للخطابات الأدبية سطحاً وعمقا، وذلك لفهم الإبداعات الفردية في كل تمظهراتها السطحية على المستويات الصرفية والتركيبية والدلالية والمنطقية، والبحث عن المولدات الحقيقية لهذا التعدد النصي والخطابي على مستوى السطح.
هذا، ولا يمكن مقاربة أي نص أو خطاب أو نشاط إنساني وبشري مقاربة علمية موضوعية، إلا بتمثل المقاربة السيميوطيقية التي تتعامل مع هذه الظواهر المعطاة، وذلك باعتبارها علامات وإشارات ورموزاً وأيقونات واستعارات ومخططات. ومن ثم، لا بد من دراسة هذه الإنتاجات الإبداعية والأنشطة الإنسانية تحليلا وتأويلا، وذلك من خلال ثلاثة مستويات منهجية سيميوطيقية، ويمكن حصرها في: البنية، والدلالة، والوظيفة.

إذاً، ما هي السيمولوجيا؟ وما هي مفاهيمها الاصطلاحية وآلياتها الإجرائية؟ وما هي أهم خطواتها المنهجية؟ وما هي أهم مدارسها واتجاهاتها؟ هذا ما سوف نعرفه في هذه الورقة التي بين أيدينا.

من المعروف أن السيميولوجيا هي ذلك العلم الذي يبحث في أنظمة العلامات سواء أكانت لغوية أم أيقونية أم حركية. وبالتالي، فإذا كانت اللسانيات تدرس الأنظمة اللغوية، فإن السيميولوجيا تبحث في العلامات غير اللغوية التي تنشأ في حضن المجتمع. وبالتالي، فاللسانيات هي جزء من السيميولوجيا حسب العالم السويسري فرديناند دوسوسير F. De Saussure، ما دامت السيميولوجيا تدرس جميع الأنظمة، كيفما كان سننها وأنماطها التعبيرية؛ لغوية أو غيرها.

ولقد حصر دوسوسير هذا العلم في دراسة العلامات ذات البعد الاجتماعي. ويعني هذا أن السيميولوجيا تبحث في حياة العلامات داخل الحياة الاجتماعية، أي: لها وظيفة اجتماعية، ولها أيضاً علاقة وطيدة بعلم النفس الاجتماعي. وفي هذا الصدد يقول دوسوسير»: «اللغة نظام علامات، يعبر عن أفكار. ولذا، يمكن مقارنتها بالكتابة، بأبجدية الصم ـ البكم، بأشكال اللياقة، بالإشارات العسكرية، وبالطقوس الرمزية، إلخ.. على أن اللغة هي أهم هذه النظم على الإطلاق ـ وصار بإمكاننا، بالتالي، أن نرتئي علماً يعنى بدراسة حياة العلامات داخل المجتمع، وسيشكل هذا العلم جزءا من علم النفس العام. وسندعو هذا العلم سيميولوجيا Sémiologie. وسيتحتم على هذا العلم أن يعرفنا بما تتشكل منه العلامات، وبالقوانين التي تتحكم فيها. وبما أنه لم يوجد بعد، فيستحيل التكهن بما سيكون عليه. ولهذا العلم الحق بالوجود في إطاره المحدد له مسبقا، على أن اللسانيات ليست إلا جزءا من هذا العلم، فالقوانين التي قد تستخلصها السيميولوجيا ستكون قابلة للتطبيق في مجال اللسانيات. وستجد هذه الأخيرة نفسها مشدودة إلى مضمار أكثر تحديدا في مجموع الأحداث الإنسانية»(1).

وعليه، فدوسوسير يحصر العلامات داخل أحضان المجتمع، ويجعل اللسانيات ضمن السيميولوجيا، بينما يرى الأمريكي شارل سندرس بيرس CH.S.Pierce أن السيميوطيقا مدخل ضروري للمنطق والفلسفة في الفترة الزمنية ذاتها، والتي استعمل فيها دوسوسير مصطلح السيميولوجيا. وفي هذا النطاق يقول بيرس: «إن المنطق في معناه العام هو مذهب علامات شبه ضروري وصوري كما حاولت أن أظهره، وفي إعطائي لمذهب صفة «الضروري» و«الصوري» كنت أرى وجوب ملاحظة خصائص هذه العمليات ما أمكننا. وانطلاقا من ملاحظاتنا الجيدة، التي نستشفها عبر معطى لا أرفض أن أسميه التجريد، سننتهي إلى أحكام ضرورية ونسبية إزاء ما يجب أن تكون عليه خصائص العلامات التي يستعين بها الذكاء العلمي.»(2)

ومن هنا، فدوسوسير يرى أن العلامات السيميولوجية لا تؤدي إلا وظيفة اجتماعية. بينما بيرس يرى أن وظيفة السيميوطيقا منطقية وفلسفية ليس إلا. وهكذا، أصبحنا أمام مصطلحين: السيميولوجيا لدى الأوروبيين، وذلك بفضل دوسوسير الذي استعمل مصطلح (Sémiologie) في كتابه: (محاضرات في اللسانيات العامة) سنة 1916م، ومصطلح السيميوطيقا (La sémiotique) لدى الأمريكيين، وذلك لكون بيرس استعمله باسم علم الدلالة العام. هذا، ويعتبر رولان بارت Roland Barthes من المدافعين عن مصطلح السيميولوجيا، وخاصة في كتابة: (عناصر السيميولوجيا)، والذي اعتبر فيه السيميولوجيا جزءا من اللسانيات، وذلك بواسطة رصده لبعض الثنائيات المنهجية، مثل: الدال والمدلول، والدياكرونية (التطورية) والسانكرونية(التزامنية)، والمحور الأفقي والمحور التركيبي، واللغة والكلام، والتضمين (الإيحاء) والتعيين (التقرير الحرفي). وهذه الثنائيات كان قد تناولها دوسوسير بإسهاب مستفيض في كتابه: (محاضرات في اللسانيات العامة)، وذلك عندما كان في لحظة التقنين لعلم لغوي جديد، ألا وهو اللسانيات ، والذي أقامه على أنقاض مرحلة الفيلولوجيا (فقه اللغة)، ومرحلة فلسفة اللغة. وفي هذا الصدد، يرى رولان بارت بأنه: «يجب، منذ الآن، تقبل إمكانية قلب الاقتراح السوسيري، فليست اللسانيات جزءا ، ولو مفصلا، من السيميولوجيا، ولكن الجزء هو السيميولوجيا، باعتبارها فرعا من اللسانيات، وبالضبط ذلك القسم الذي سيتحمل على عاتقه كبريات الوحدات الخطابية الدالة. وبهذه الكيفية تبرز وحدة البحوث الجارية اليوم في الأنتروبولوجيا، وعلم الاجتماع، والتحليل النفسي، والأسلوبية، حول مفهوم الدلالة… إن المعرفة السيميائية لا يمكن أن تكون اليوم سوى نسخة من المعرفة اللسانية، لأن هذه المعرفة يجب أن تطبق، على الأقل كمشروع، على أشياء غير لسانية»(3).

وهكذا، فقد استلهم رولان بارت عناصر لسانية للدفع بالبحث السيميائي إلى الأمام، وذلك بالاعتماد على ثنائيات منهجية لسانية، مثل: اللسان والكلام، والدال والمدلول، والمركب والنظام، والتقرير والإيحاء.

وعليه، فالسيمياء حسب بيير غيرو Pierre Guiraud ما هي إلا العلم الذي: «يهتم بدراسة أنظمة العلامات: اللغات، وأنظمة الإشارات، والتعليمات، إلخ… وهذا التحديد يجعل اللغة جزءاً من السيمياء. الواقع أننا نجمع على الإقرار بأن للكلام بنيته المتميزة والمستقلة، والتي تسمح بتحديد السيمياء بالدراسة التي تتناول أنظمة العلامات غير الألسنية، مما يحتم علينا تبني ذلك التحديد»(4).

وهكذا، فقد ظهرت نظرية العلامات العامة منذ بداية القرن العشرين، فتمسك الأنكلوسكسونيون بالسيميوطيقا، في حين اختار الأوروبيون السيميولوجيا. ويمكن أيضاً التفريق بينهما بشكل دقيق، فنقول: إن السيميولوجيا عبارة عن نظرية عامة، وفلسفة شاملة للعلامات، أو هي بمثابة القسم النظري، في حين تعد السيميوطيقا منهجية تحليلية، تشغل في مقاربة النصوص والخطابات والأنشطة البشرية تفكيكاً وتركيباً، وتحليلاً وتأويلاً، أو هي كذلك بمثابة القسم التطبيقي للسيميولوجيا. ولكن، بعد افتتاح المؤسسة العالمية للدراسات السيميائية التي تصدر مجلة تحت عنوان: (السيميوطيقا /Semiotic)، وهي تهتم بشكل من الأشكال بالبحوث التي تسير في هذا الاتجاه، اجتمعت الآراء والتدخلات على اختيار مصطلح السيميوطيقا تنظيراً وتطبيقاً.

موضــوع السيميوطيقا
السيميوطيقا ـ كما هو معلوم ـ عبارة عن لعبة التفكيك والتركيب، وتحديد البنيات العميقة الثاوية وراء البنيات السطحية المتمظهرة فونولوجياً وصرفياً ودلالياً وتركيبياً. ومن ثم، تستكنه السيميوطيقا مولدات النصوص وتكوناتها البنيوية الداخلية، وتبحث جادة عن أسباب التعدد، ولانهائية الخطابات والنصوص والبرامج السردية، وتسعى إلى اكتشاف البنيات العميقة الثابتة، وترصد الأسس الجوهرية المنطقية، والتي تكون وراء سبب اختلاف النصوص والجمل والملفوظات والخطابات. وبالتالي، فالسيميوطيقا لا يهمها ما يقول النص، ولا من قاله، بل ما يهمها هو كيف قال النص ما قاله. أي: إن السيميوطيقا لا يهمها المضمون ، ولا حياة المبدع أو سيرته، بقدر ما يهمها شكل المضمون.

منهجيـــة السيميوطيقا
تتحدد منهجية السيميوطيقا كما عند جماعة أنتروفيرن Groupe D’Entrevernes في ثلاثة مبادئ ضرورية، ألا وهي(5):
1- التحليل المحايث: تبحث السيميوطيقا عن الشروط الداخلية المولدة للدلالة التي تبحث عنها. ومن ثم، فالتحليل المحايث(Immanente) يتطلب الاستقراء الداخلي للوظائف النصية التي تساهم في توليد الدلالة. ولا يهمها العلاقات الخارجية، ولا الحيثيات السوسيو- تاريخية والاقتصادية التي أفرزت عمل المبدع. وبالتالي، فالسيميوطيقا تبحث عن شكل المضمون، وذلك عبر رصد العلاقات التشاكلية أو التضادية الموجودة بين العناصر داخل العمل الفني.

2- التحليل البنيوي: تتضمن السيميوطيقا في طياتها المنهج البنيوي القائم على مجموعة من المفاهيم الاصطلاحية ، والتي يعتمد عليها تفكيكاً وتركيباً، مثل: النسقية ، والبنية ، وشبكة العلاقات، والسانكرونية، والوصف المحايث. وبالتالي، فلا تفهم السيميوطيقا البنيوية إلا من خلال الاختلاف، لأن فرديناند دوسوسير وهلمسليف يقران بأن المعنى لا يستخلص إلا عبر الاختلاف، وبالاختلاف وحده. ومن هنا، كان الاختلاف سبباً من أسباب تطور الدراسات البنيوية واللسانية والتفكيكية.

وهكذا، فعندما تقتحم السيميوطيقا أغوار النص، فإنها تدخل من نافذة العلاقات الداخلية المثبتة، والقائمة على الاختلاف بين البنيات والدوال. ومن ثم، فالتحليل البنيوي هو الوحيد الذي له القدرة على الكشف عن شكل المضمون، وتحديد الاختلافات على مستوى العلاقات الموجودة بين العناصر الداخلية للنسق في علاقته مع النظام البنيوي.

3- تحليل الخطاب: تفترق السيميوطيقا النصية عن لسانيات الجملة أيما افتراق؛ لأن هذه الأخيرة تركز كثيرا على الجمل في تمظهراتها البنيوية أو التوزيعية أو التوليدية أو التداولية، فتريد فهم كيفية توليد الجمل اللامتناهية العدد، وذلك من خلال قواعد متناهية العدد، أو كيفية توزيع الجمل حسب مكوناتها الفعلية أو الاسمية أو الحرفية أو الظرفية، مع تحديد وظائفها التداولية. بيد أن السيميوطيقا تحاول البحث عن كيفية توليد النصوص، ورصد اختلافها سطحاً، واتفاقها عمقاً.

مدارس السيميوطيقا واتجاهاتها
تستمد السيميوطيقا ـ باعتبارها منهجا للتحليل ـ أصولها من اللسانيات والبنيوية والفلسفة والمنطق. وبالتالي، فهي تتفرع إلى مدارس واتجاهات متعددة ومختلفة ومتنوعة.

وهكذا، يفرع الباحث المغربي محمد مفتاح النظريات اللسانية إلى: التيار التداولي، والتيار السيميوطيقي، والتيار الشعري. فعلى المستوى البويطيقي الشاعري، يتحدث عن مساهمات رومان جاكبسون Roman Jackobson، وجان كوهن Jean Cohen، وجان مولينو Molino، وطامين Tamine. أما ضمن التيار السيميوطيقي، فيتحدث عن «محاولات في السيميوطيقا الشعرية» و«بلاغة الشعر» لجماعة مو Groupe M، و« سيميوطيقا الشعر» لميكائيل ريفاتير، و»المعجم المعقلن « لكريماص وكورتيس.

أما التيار التداولي عنده فيتفرع بدوره إلى شعبتين كبيرتين، ألا وهما:
1- نظرية الذاتية اللغوية: ويمثلها الفيلسوف موريس Morris، وتبعه في ذلك لسانيون آخرون، فتناولوا عدة ظواهر لسانية ولغوية (المعينات، وألفاظ القيمة…).

2- نظرية الأفعال الكلامية: ظهرت كرد فعل على الوضعية المنطقية التي كانت تستند إلى التجريب والتمحيص في قبولها للتعابير والأخبار، ويمثل هذه النظرية فلاسفة جامعة أكسفورد، وخاصة أوستين Austin ،وسورل Searle ، وكرايس Grice(6).

بينما يتحدث بيير غيرو Pierre Guiraud في كتابه الذي خصصه للسيميولوجيا عن ثلاثة أنواع من الأنظمة: أنظمة الرموز المنطقية والفلسفية، وأنظمة الرموز الجمالية في الفنون والآداب، وأنظمة الرموز الاجتماعية. أي: محدداً للسيميولوجيا ثلاث وظائف أساسية: وظيفة منطقية، ووظيفة اجتماعية، ووظيفة جمالية(7).

هذا، ويقسم الباحث المغربي حنون مبارك الاتجاهات السيميوطيقية إلى سيميولوجيا التواصل، وسيميولوجيا الدلالة، وسيميولوجية دوسوسير، وسيميوطيقا بيرس، ورمزية كاسيرر Cassirer، وسيميوطيقا الثقافة(8). أما الدكتور محمد السرغيني في كتابه: (محاضرات في السيميولوجيا)، فيحدد ثلاثة اتجاهات: الاتجاه الأمريكي، والاتجاه الفرنسي، والاتجاه الروسي(9). ومن جهة أخرى، يحصر عواد علي بدوره السيميولوجيا في ثلاثة اتجاهات: سيمياء التواصل، وسيمياء الدلالة، وسيمياء الثقافة(10). ويحدد مارسيلو داسكال Marcilo Dascal كغيره، اتجاهات السيميولوجيا في ثلاثة تيارات: سيميولوجيا التواصل، وسيميولوجيا الدلالة، وسيميولوجيا التعبير عن الفكر(11).

هـوامــش:
1- بيير غيرو: السيمياء، ترجمة: أنطوان أبي زيد، منشورات عويدات، بيروت، لبنان، باريس، الطبعة الأولى سنة 1984م، ص:6.

2 – بيير غيرو: السيمياء، ص:6.

3 – رولان بارت: مبادئ في علم الدلالة، ترجمة محمد البكري، عيون المقالات، الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 1986م، ص:30-39؛

4 – بيير غيرو: السيمياء، ص:5.

5- Groupe D›entrevernes:Analyse sémiotique des textes.ED.Toubkal, Casablanca, 1987, p:7-8;

6 – د.محمد مفتاح: تحليل الخطاب الشعري(إستراتيجية التناص)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 1985م،ص:7-16.

7 – بيير غيرو: السيمياء، ص:61-133؛
8 – د.حنون مبارك: دروس في السيميائيات، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى سنة 1987م، ص:69-85.

9 – د.محمد السرغيني: محاضرات في السيميولوجيا، دار الثقافة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1987م، ص:68.

10 – عواد علي: معرفة الآخر، مدخل إلى المناهج النقدية الحديثة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 1990م، ص:84-106.

11 – مارسيلو داسكال: الاتجاهات السيميولوجية المعاصرة، ترجمة: لحمداني حميد وآخرون، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 1987م.