
أحمدو محمد الحافظ النحوي
في إحدى ليالي الغربة الحالكات وبينما كنت أطالع بعض المحاضرات تحضيرا للامتحانات طالعتني صورة قديمة حملت في طياتها الكثير من العبر والذكريات والشوق والاشتياق إلي أرض وبلاد لم أفطم عن عشقها رغم أني تجاوزت العشرين وموطن لم أتعود الغياب عنه طويلا ,,,
زاد هيماني صوت أسطورة الفن العربي الراحلة أم كلثوم وهي تردد ترانيمها الساحرة بصوتها العذب الشجي متجسدا في رائعتها الشهيرة – الأطلال- كانت مؤنسي الوحيد في غربتي أتجول بين أسطوانتها ففيها أجد متنفسا أرمي عليه بعضا من همومي وكثيرا
من أشجاني التي أتصورها بعض الأحيان كالجبال الراسيات.
حركت في تلك الكلمات المؤثرة وذاك النغم الجميل أمواجا من الشوق و الاشتياق تتلاطم لتعود بي سجل الذكريات إلي أيام وليالي خاليات ولسان حالي يقول:
لمَ الأشجانُ ديْدَنُهَا التلاقي
وللأشواقِ باعٌ في الفُرَاقِ ؟!
عنِ الأوجاعِ نسألُ ما دهاها ؟!
تبرُّ بنا ..إذا شئنا التراقي
تسوقُ لنا من الأطلالِ ذِكْرى
تحجُّ لها الدموعُ منَ الحِداقِ
أمَا والله إنَّ الشوقَ حُلو
وبعضُ الحلوِ مُرٌّ في المذاقِ
في تلك الصحراء البعيدة وبين كثبان وأودية رباط الفتح الساحرة و تحت أنوار قمرها الساطع كانت لنا ليال دمشقيات – رباطيات- نديات في رحاب ذلك النادي وما أدراك ما النادي ؟
في ذلك النادي العتيق كنت ومجموعة من الشباب نرتاده لننهل من معين المعرفة والمحبة والكرم التي كان يتمتع بها صاحبه ,, كانت أمسياتنا تبدأ بتناول كيسان معتقة من الشاي المنعنع التي تشبه في نكهتها النبيذ الفرنسي الخالص – كما نتخيل حسب تصوير أصحابه له- لحلاوتها فهي تنسي الهموم و الأحزان وكأنها خمر حلال …
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
وداويني بالتي كانت هي الداء
صفراء لا تمر الأحزان بساحتها
لومسها حجر مسته السراء
|
علي أنغام الشاي المنعنع ورياح – سوحلية – وفي ذلك الفضاء الرحب كانت تدور هناك مناقشات وسجالات فكرية رائعة , كنا رغم صغر سننا نجد في تلك الجلسات متنفسا ومنهلا ننهل منه ونبدي آرائنا بكل حرية ,,, تارة يدور الحديث عن ناصر وحرب النكسة ومآلاتها وأسباب هزيمة العرب مسؤولية ناصر عنها وكيف أنه حول النصر إلي هزيمة – أو هكذا يرى بعضنا- وعن حركة الإخوان وقياديها ومنهاجها –الذي كان يصادف هوي في نفوس البعض منا ,, وتارة أخري حول ماركس ومذهبه وكيف أنه أخطأ في فهم الحياة فحولها إلي مجرد مادة ثم ينتقل بنا الحديث إلي أيام العرب وبطولاتهم و أشعارهم . كان يحدثنا مؤسس النادي عن داحس والغبراء و حرب البسوس و ذي قار وصولا إلي أبرز محطات التاريخ الإسلامي توقفا عند الأمويين وملكهم العضد و ختاما بالعباسيين وحضارتهم وبغداد وعصرها الذهبي الراشدي (نسبة للخليفة هارون الرشيد)
ليمسك حديثة وغصة في حلقه أسي علي مصير عاصمة الرشيد بعد أن ضاعت واستباحها هولاكو العصر..
مؤسس النادي هو شاب –أربعيني – موسوعي ذو ثقافة عالية ،عصامي ، سياسي من نوع خاص رغم أنه هجر السياسة مذ سنين لكنه لا يزال يفهم الكثير من أبجديتها وطلاسمها التي تخفي اليوم علي أباطرتها ، يشعرك وأنت تجالسه بأنك في رحاب -قباني- شعرا وناصر -سياسة – وطه حسين ثقافة واطلاعا وابن الفارض تصوفا وإخباتا فقد جمع الرجل بين كل تلك الوجوه علي اختلافها…
كان ذلك النادي علي بساطته يمثل لنا مقهي قصر الحمراء في بيروت والهفنا في دمشق و ريمستون الذي تعود المثقف والأديب الأرجنتني الشهير سانت-إكزوبيري أن يسطر فيه أشهر إبداعاته الفنية والسياسية ,, جمعت تلك الدار بين كل هذه الوجوه والحضارات ففيها تستنشق نسيم بيروت , وأدب دمشق , وتراث وعبق أرض الهفنا …
حين يرخي الليل سدوله مؤذنا ببداية فجر جديد تتحول تلك الحلقات والجلسات الثقافية -العفوية – إلي حلقات سمر صوفي وينصت الجميع بإخبات إلي أحد رواد النادي وهو ينشد قصائد ابن الفارض تارة وتارة أشعار شيخ الإسلام – الشيخ إبراهيم انياس – فتسكن النفوس وتطمئن القلوب وتنعم الأرواح في أجواء روحانية فريدة ,,, تتواصل هذه الحلقة حتي يصدح مؤذن القرية بصوته الجهوري … حي علي الصلاة ،حي علي علي الفلاح ,,,
كانت تلكم إحدى ليالي النادي الخالدات ، تذكرتها وأنا أسبح في بحر همومي و أشواقي هنا بعيدا عن النادي ورحابه وروحي تردد
جسمي معي غيرَ أنَّ الرُّوحَ عندكمُ
فالجسمُ في غُربةٍ والرُّوحُ في وَطَنِ
فليعجبِ النَّــاسُ منِّي أنَّ لي بَدَناً
لا رُوحَ فيهِ ولي رُوحٌ بلا بَـدَنِ
في النادي كانت لنا أيام ,,,,,,,,,
أحمدو محمد الحافظ النحوي
كاتب موريتاني مقيم في المغرب
Ahmedounahwi2009@gmail.com