الاقتصاد السياسي و الاجتماعي للتحول الحالة المغربية


هل من الممكن أن تتحقق الديمقراطية مهما كانت الشروط الاقتصادية ؟ إن مراجعة الاقتصاد السياسي للتحول الديمقراطي في الحالة المغربية والمغاربية والعربية، مقارنةً بالتجارب الأكثر دلالة في عالم اليوم، يحتّم أولاً القيام بدراسة مسألةقديمة نسبياً للأسس الاقتصادية للديمقراطية
من البديهي أن الإشكالية هي أكثر تعقيداً من مجرد العلاقة بين عالم الاقتصاد الناجم عن وضعية معينة (بُنى، قيم، متغيرات، قوى عميقة، عناصر فردية ومشتركة، ظروف، تصرفات…) وبين الشكل السياسي المسمى بالديمقراطية،

مهما كان النظام الذي تعبّر عنه الديمقراطية جيداً. يبدو أن الترابطية بين الاقتصاد والديمقراطية تتعلق بالمحتوى الاجتماعي والاقتصادي للديمقراطية، أي بمداميكها
وتركيبها والصعوبات الناجمة عن البنى التبادلية. من خلال ذلك، يمكننا أن ننتقل من مجرّد استنساخ التقييمات التي تقدمها وكالات التنمية الدولية استناداً إلى خزاناتها من المعايير، من الأدوات ومن آليات على المستوى الوطني وعلى المستوى الدولي، إلى منهجية يبدو فيها معنى المبادرة أكثر وضوحاً. إن الأمر يتعلق، وبكل وضوح، بإشكالية النظام السياسي والمصادر الاقتصادية المتاحة.
قطار الإصلاحات الاقتصادية والتحوّل: لقد عرف الاقتصاد المغربي خلال العقدين الأخيرين إصلاحات بنيوية متعلقة بتحرير الاقتصاد، بالخصخصة وتقشف الميزانية.
وهدفت الموجة الأولى من الإصلاحات المرتبطة بإعادة الهيكلة إلى وضع آلية السوق موضع التطبيق في اقتصاد كان حتى الآن مسيّراً بشكل قوي (تحرير الأسعار وخصوصاً الفوائد، إلغاء الرقابة على التجارة الخارجية والاستثمار، خصخصة).
موجة ثانية من الإصلاحات الهيكلية حاولت التشجيع على عرض تنافسي موجّه للتصدير. ولقد حاولت هذه السلسلة الثانية من الإصلاحات تعديل العلاقات بين الدولة والقطاع الخاص، وتعزيز دولة القانون في العلاقات بين الفعاليات الخاصة من جهة وبينها وبين الدولة من جهة أخرى. ولقد تتابع الإصلاح من خلال تسريع وتعميق التحرير التجاري، إصلاح الأنظمة الضرائبية، تبني تشريعات تجارية، توسيع سياسة الخصخصة للشركات العامة، بداية الانتقال إلى سياسة الأسواق المالية، الانفتاح
على التدفقات المالية الدولية. وبشكل فعلي، فقد اتخذت خطوات هامة بهدف تحرير التجارة من خلال عدد من الاتفاقيات الدولية، كما اتفاقية الشراكة الموقعة في عام 1996 مع الاتحاد الأوروبي والتي دخلت حيّز التنفيذ في عام 2000. وكذلك الاتفاق الذي تم التوصل إليه مع الولايات المتحدة في آذار/مارس من عام 2004. وفي نفس الإطار، تم سن قوانين جديدة تتعلق بالقطاع المصرفي وبالمصرف المركزي عزّزت تنظيم ومراقبة النظام المالي. وتمت أيضاً إعادة هيكلة عدد من المصارف
التي كانت تمر بصعوبات. ويضاف إلى ذلك ما جرى من خصخصة لشركات الاتصالات على عدة مراحل، ومنح ترخيص ثاني للهواتف المحمولة سمح بتحقيق أرباح اقتصادية ومالية هامة للغاية. وفي عام 2004، كان تمويل أكثر من نصف العجز في الميزانية ناجم عن محصلات الخصخصة ولو أنّ هذه الأخيرة بدأت تنفذ بشكل واضح بدءاً من العام 2006. إجراءات أخرى أتت لتعزّز من موجة الإصلاحات، كالمراسيم المتعلقة بالمناقصات العامة، وإطلاق عملية إصلاح النظام القضائي وخصوصاً، فبما يتعلق بإقامة محاكم تجارية، وإصدار قرارات جديدة تدير سياسة المنافسة وتحرير الأسعار.
من جهة أخرى، قدّرت المنظمات المالية الدولية، بما فيها البنك الدولي، أنّه قد سجّلت جهودٌ هامة داعمة للاستقرار بهدف تخفيض اللاتوازن في الميزانية. ولقد أدّت الإجراءات المتعلقة بالنفقات والموارد إلى الحفاظ على مستويات منخفضة في العجز في الميزانية بحيث لا يتجاوز 3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. ودعمت سياسة، وصفت بالحذرة، نظام ثابت لمعدل الصرف. وجرى تعديل سلة العملات الأجنبية المنخفضة عن معدل الصرف في عام 2000، مما أدى بشكل حتمي إلى تخفيض
قيمة الدرهم بمعدل 5 في المائة. ولقد ساعدت عوامل مواتية على دعم هذه الخطوات. فكانت تحويلات المهاجرين، وموارد السياحة والاستثمارات الأجنبية المباشرة المرتبطة بالخصخصة، والتي سمحت كلها بالتحصّل على سيولة مصرفية وعلى احتياطات هامة من القطع الأجنبي. وكذلك، فإن الاحتياطي قد تضاعف أو أكثر. فهو انتقل مما يعادل 4,6 أشهر من الواردات في عام 2000 إلى ما يعادل عشرة أشهر من الواردات في عام 2004. وسمحت تحويلات المقيمين المغاربة في الخارج بادخار وطني متصاعد وبفوائض متتالية في الحساب الجاري منذ العام 2001. وفي عام 2003، شكّلت هذه التحويلات 8,2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وكذا شكّلت حصيلة السياحة 7,1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وقد انخفض أيضاً الدين العام الخارجي بطريقة منتظمة منتقلاً من 34 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2000 إلى 16 في المائة منه في عام 2004، على
الرغم من أن هذا الدين يظلّ ثقيل الوطأة. بالمقابل، ارتفع الدين الداخلي منتقلاً من 42 في المائة إلى 51 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في نفس الفترة. وبالمحصلة، وعلى الرغم من عجوزات هامة في الموازنة، استطاع المغرب تخفيض دينه العام الشامل المباشر من 76 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2000 إلى 67 في المائة من هذا الناتج في عام 2004. ويبدو أن مصداقية الوضع الاقتصادي بعد اتفاقيات إعادة جدولة الدين قد استعيدت منذ نهاية عقد التسعينات. وقد تحسّن انطباع السوق عن الاقتصاد المغربي، الذي استفاد بذلك من إدارة جيدة نسبياً للدين، ومن مستوى منخفض للتضخّم، ومن تأثير إيجابي نسبي للإصلاحات الهيكلية الجارية، ومن حالة متينة للاحتياطيات الخارجية. ومن خلال هذا المنظور الإيجابي، ارتفع الادخار والاستثمار. فبين عامي 1995 و2004، ارتفعت معدلات الادخار الوطني من 18 في المائة إلى 26 في المائة، ومعدلات الاستثمار من 20 في المائة إلى 24 في المائة، وذلك نتيجة للاستثمار الخاص بشكل أساسي. وقد ارتفع الادخار الوطني بشكل موازي مع تحويلات الأموال الآتية من الخارج. وتنّوعت الصادرات، في حين شهد قطّاع السياحة وقطاعات أخرى من الخدمات تطوراً. وارتفع حجم الودائع المصرفية. في إطار هذه الصورة الإيجابية، تجدر الإشارة أيضاً إلى الوضع الجيد لسوق البناء ولكن من دون أن نؤكد في كل الأحوال أنه عندما يكون قطاع البناء في حالة جيدة، فكل الأمور تكون حسنة. وتشهد أيضاًّ حركة الاستثمارات الخارجية تطوراً إيجابياً، وكذا انجازات على مستوى السياحة في عدد من المواقع (مراكش، أغادير،
ورزازات، الصويرة…). إن ارتفاع تقييم المغرب فيما يتعلق بدرجة دينه الذي انتقل من درجة BB إلى BB+ وذلك حسب الوكالة العالمية الأولى لتحديد الترتيب المالي (ستاندارد وبوورز)، لا يبدو أنّه محض صدفة. وهذا يعني باللغة الاقتصادية، أن المغرب استطاع امتصاص جزء من دينه. وكذلك، وفي باب ثانٍ، فالمغرب يستطيع بسهولة أكبر التحصّل على تمويل في الأسواق المالية الدولية وبشروط تفضيلية. أثر ذلك يمكن تحسسه أيضاً في إطار الشركات المغربية الخاصة والعامة التي جرى تقييمها أو التي تسعى لأن تقيّم في المستقبل، مما سيؤدي إلى تحسين وضعياتها. هذا التقييم كان مستقراً في عام 1998 وانتقل إلى سلبي في تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2001، ومن ثم، انتقل من مستقر في شباط/فبراير عامي 2003 و 2004 إلى إيجابي في 2006. وبالتالي، فإن العلامة قد تحسنت. ويمكن تفسير هذا النجاح أساساً من خلال تحسن مؤشرات خارجية كالمديونية العامة الخارجية، تحويلات المغاربة المقيمين في الخارج، موارد السياحة والخصخصة. من جهة أخرى، تجدر الملاحظة أن النمو كان محدوداً ومتواضعاً وتمّ خلق فرص عمل بشكل ضيق. ولقد عرف الاقتصاد معدل نمو أقل من 3,5 في المائة خلال العقد الأخير ومعدل 3,8 في المائة خلال الفترة بين عامي 2001 و 2004.
على رأس العوامل التي ساهمت في هذه النتيجة السيئة، يظهر متغير الزراعة المغربية الناجم عن تعاقب سنوات الجفاف، وحيث أن النمو مرتبط بالزراعة، أي بمعدل 15 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وظهر موسم 2004 ـ 2005 مع 4,2 مليون طن متواضعاً جداً، خصوصاً في مجال الحبوب، مسجلاً انخفاضاً للإنتاج بمعدل 57 في المائة مع مجموع وقدره 3,6 مليون طن.
تواضع النتائج هذا يمكن شرحه من خلال النمو المنخفض لقطاعات أخرى عدا القطاع الزراعي والذي لا يتجاوز 3,2 في المائة، وبسبب ضعف تحوّل الادخار الوطني إلى استثمارات على مستوى عالٍ من الإنتاجية. إن ضعف تنافسية الشركات المغربية في الاقتصاد العالمي له أثر أيضاً في واقع الحال هذا.
يمكن الإشارة أيضاً إلى تراجع في وضع الموازنة المغربية. فالعجز في الموازنة الأكثر أهمية كانت في إطار 5,2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بين عامي 2001 و 2004، وجرى تمويلها من خلال الدخول الهامة الناجمة عن الخصخصة وكذلك من حلال الاستدانة الداخلية. ويمكن تفسير العجز الأساسي في الموازنة من خلال حجم كتلة الرواتب الذي يسجل ارتفاعاً مستمراً. إنها تشكل 13 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2004. وتشكل تكاليف التوظيف أكثر من 57 في المائة من
الموازنة العامة، أي 44,5 مليار درهم مغربي. والمبلغ المخصص لعملية "التقاعد الطوعي"، وهو برنامج خاص للتخفيف من أعباء الوظيفة العمومية ويعتمد على قبول الموظف بالتخلي عن عمله مقابل تعويض مالي، بلغ 3,4 مليار درهم، وكلفت عملية الترفيع الاستثنائي مبلغ 2,2 مليار درهم شارحةً بالتالي جزئياً استمرارية هيمنة الوظيفة العمومية وخلال سنة، ارتفعت كتلة الرواتب من 24 إلى 41 مليار درهم. ولم تكفي المغادرة الطوعية لـ 40 ألف موظف في تخفيض ثقل هذا المؤشر. ومن وجهة النظر هذه، تجدر الإشارة إلى الظواهر المتناقضة للأزمة النفطية. فاضطرابات السوق
النفطية ترجمت بارتفاع في المدخولات الضريبية. ففي محصلّة العام 2003، أدى اقتطاع الرسم الداخلي للاستهلاك على منتجات الطاقة إلى تزويد الدولة ما يقارب 6,2 مليار درهم، أي أكثر بمعدل 14 في المائة بالنسبة لنهاية 2004. إضافة إلى ذلك، وبفضل رسم القيمة المضافة، فقد اجتذبت الخزينة 2 مليار إضافيين (+41 في المائة) أي مبلغاً وقدره 8 مليار درهم في الأشهر الثماني الأولى في العام، مما يدل على ارتفاع بما لا يقل عن 19 في المائة بالنسبة لنفس الفترة من السنة
السابقة.
وقد جلب اقتطاع رسم القيمة المضافة والرسم الداخلي للاستهلاك على المشتقات النفطية، جلبا للخزينة في نهاية العام 2004 مبلغاً وقدره 14 مليار درهم في حين كانت الأسعار العالمية للنفط في تصاعد مستمر. ويبدو أن هذا المورد المالي مدعوٌ للارتفاع أكثر في جو الخلخلة القائم في السوق النفطية. ولكن هذا التحسن في الموارد المالية (أكثر من 13 في المائة، وهو ما يعادل 68 مليار درهم)، لم يكن كافياً لتعويض انفجار النفقات ويؤكد مشكلة جسامة النقص في الموارد. إن العجز
يمكن أن يفسّر أيضاً بالإنفاق المرتبط بالأمن، وبالاستثمارات الاستثنائية المرتبطة بالبنية التحتية الممولة من قبل صندوق الحسن الثاني، وبالتحويلات الهامة التي جرت لصالح نظام التقاعد ولصالح المصارف التي تمر بصعوبات. وحسب مجمل الآراء، فهذا العجز في الموازنة لم يكن محتملاً في المدى المتوسط. ويظهر أن المناخ السياسي والمسار الديمقراطي غير المكتمل، وحالة الحاكمية، هي عناصر تشرح بشكل كبير هذه الحالة. إن الاقتصاد غير المنظم يلعب دوراً هاماً في المغرب. واستناداً إلى تقارير مختلفة، فهو يساهم في 17 في المائة من إنتاج الثروة القومية. وفي بعض القطاعات
كالبناء والأشغال العامة، يشغل القطاع غير المنظم 52 في المائة من اليد العاملة و 40 في المائة من الإنتاج و55 في المائة من القيمة المضافة. والمكانة الهامة للاقتصاد غير المنظم هي ظاهرة مشتركة لمجمل الدول المغاربية. وإضافة لتطور هذا الشكل من الاقتصاد داخل الدول، فهناك العديد من المعطيات التي تشير إلى أن التجارة غير المنظمة النشطة تتعزّز بين دول المغرب، وبين دول المغرب وأوروبا، وبين هذه الدول وأفريقيا جنوب الصحراء. التجارة الإقليمية غير المنظمة تتطور على حساب غياب اندماج إقليمي في أفريقيا الشمالية. فخلال العقدين الأخيرين، شكّل التهريب العابر للحدود بالنسبة لبعض المراقبين من 15 إلى 20 في المائة من التجارة الإقليمية، وهي غير قابلة للحساب،
لكونها تلتف على المراكز الجمركية ويجري تسييرها من قبل شبكات غير منظمة. وهنا يُطرح السؤال لمعرفة إن كان الاقتصاد والتجارة غير المنظمين يشكلان تعبيراً عن غياب دولة القانون والديمقراطية، إضافة إلى تشكيلهما تهديداً للدولة المغربية. إن تحليل عمل الاقتصاد غير المنظم يسمح بفهم أيّ من الشبكات غير الشرعية تكوّن هيكليته. والأجوبة على هذه التساؤلات تسمح بفهم ليس فقط طبيعة التهديد الذي يشكله الاقتصاد غير المنظم على الدولة، بل أيضاً كم من الوقت يمكن للدولة أن
تقاوم اندثارها الذاتي وما هي شروط دمقرطتها. على رأس المتغيرات التي تشرح ضعف النمو الاقتصادي في المغرب، نشير إلى غياب دولة القانون، وقضاء عادل، وحياة مؤسساتية، وميول ديمقراطية منفذة، وحاكمية رشيدة. أمام هذه الحالة الاقتصادية، يبدو أن تطور اقتصاد غير منظم هو أمر منطقي. فهو يصبح الملجأ الضروري من أجل العيش وأيضاً، يُفخخ على المدى البعيد استقرار الدولة. وبالتالي يطرح السؤال حول العلاقة بين الضعف الاقتصادي والاجتماعي من جهة، والدمقرطة من جهة أخرى.
القطّاع الخاص والإصلاح السياسي: لقد سمحت عملية الخصخصة بالحصول على موارد مالية هامة، ولكن هذا النجاح المالي لم يجرّ معه فعالية اقتصادية واجتماعية. ولقد أدى عدم مصاحبته بمسار تدعيم التنافسية، وقيام عدد من انتقالات الاحتكارات من الدولة إلى القطاع الخاص من دون فتح بنية السوق على المنافسة الداخلية والخارجية، إلى أن الفعالية الاقتصادية لهذا النجاح المالي ظلّت محدودة. وفي كثير من الحالات، أدّت الخصخصة إلى تدعيم المركزية الصناعية والمالية، وهذا
بعيدٌ عن أن يُترجم عبر تحسّن الفعالية الاقتصادية. تظل نتائج الخصخصة ضئيلة، كما يدل على ذلك أثرها المتواضع على التنمية الإقليمية والأثر الضعيف على المساهمة الشعبية والتأثيرات المحدودة على المساهمة الشعبية ومساهمة الأجراء. من وجهة نظر أكثر شمولية، فإن دور الفعاليات الاقتصادية، وخصوصاً ما نسميه بالقطاع الخاص، في الترويج للإصلاح السياسي والاقتصادي يبدو أيضاً هاماً للغاية. فهو يتميّز مبدئياً عن دور الدولة والمؤسسات العامة. ولكن تحليله لا يخفي سيطرة الدولة على وظيفة برمجة، وكذلك على عملية ترتيب السياسات الاجتماعية والاقتصادية. ومن المهم ملاحظة تواجد "الحكومي" في كل مكان على الرغم من المظاهر. ألا يشرح هذا بالتالي غياب لتنافسية والشفافية والانفتاح على الاستثمار، والارتباط الشديد بعقود المؤسسات الحكومية؟ فخلف فرص الأعمال تظهر بشكل أساسي قرارات ومبادرات الحكومة أو الدولة. منذ سنوات السبعينات، بدا أن القطاع الخاص قد سار على طريق طويلة اكتسب من خلالها قدرات ومهارات واستقلالية. ولكنه، شكل متناقض، فإننا نجد الدولة في صميم "الخاص" بصورة أو بأخرى. وبالتأكيد، فإن الدولة قد شجعت القطاع الخاص من خلال تقديم فرص لاستثماراته ومن خلال تحويل المؤسسات العمومية ونصف العمومية إلى القطاع الخاص. يضاف إلى ذلك مسألة الشفافية والمراقبة ودرجة التنافسية وتطور البنى الاجتماعية للفعاليات الاقتصادية، خصوصاً تلك المتعلقة بحاكمية العائلات لفعاليات السوق. ومن جهة
أخرى، فإن الدور الحالي أو المستقبلي للقطاع الخاص في الترويج للإصلاح السياسي والاقتصادي، (مسألة المشاركة، ومسألة تمثيل القطاع الخاص في المؤسسات الحكومية، الخ…) يشكّل موضوعات أساسية لم تستقر بعد، وتنمو حولها صراعات عديدة مرتبطة بما نسميه مسار الدمقرطة.
ضغوط ديموغرافية ودمقرطة إن تخفيض معدل البطالة يشكّل تحدي أساسي من وجهة نظر استقرار الدولة المغربية. وفي إطار التشدد الراديكالي للحركات الإسلامية خلال السنوات الماضية، والذي تم تجسيده من خلال ظاهرة العمليات الانتحارية، ومخاطر عدم الاستقرار الذي تُثقل بها هذه الحركات على النظام، فإن إدماج الشباب في سوق العمل يشكّل أولوية في السياسات الاقتصادية للبلاد. بالتأكيد، فإن الضغط الديموغرافي على المدى البعيد، وخصوصاً مكانة الشباب في هرم الأعمار، سيتراجع
بسبب انخفاض معدل الولادة خلال هذا العقد، ولكنه يدفع إلى الشعور بجثامته حتى الساعة. وخلال خمسون عاماً، تضاعف عدد سكان البلدان المغاربية بمقدار 3,4 مرة. فارتفع العدد من 25,7 مليون في عام 1950 إلى 77,8 مليون في عام 2001. ومعدل الحياة ارتفع من جهته من 42 سنة إلى 67 سنة عدا موريتانيا حيث لم يتجاوز 50 سنة. هذا التغيّر الديموغرافي سيكون من نتيجته ارتفاع عدد السكان الشباب البالغين 20 إلى 40 سنة، من 23 مليون إلى 28 مليون بين عامي 2000 و 2010. وحسب التوقعات لعام 2010، سيشكل الشباب من أعمار 20 إلى 40 سنة 36 في المائة من عدد
السكان الإجمالي. وبحسب توقعات أخرى، ستتراجع شريحة العمر هذه في عام 2030، وستشكل 33 في المائة فقط من مجمل عدد السكان وذلك بسبب انخفاض معدل الخصوبة، الذي سينتقل من معدل 7 ـ 8 مواليد في سنة 1970 إلى أقل من 3 مواليد في سنة 2000. بين عامي 2000 و 2010، ستواجه الشريحة العمرية بين 20 إلى 40 سنة غياب فرص العمل حيث يظهر أن معدل تزايدها أقل من نمو السكان. وعرض العمل الرسمي في عام 2000 سيكون بمقدار 15 مليون للجزائر والمغرب وتونس. وفي عام 2010، سيرتفع العرض إلى 19 مليون فرصة عمل في حين أن شريحة الشباب من 20 إلى 40 سنة ستشكل 28 مليون نسمة. وبالتالي، فعشرات الملايين من "الشبان" مهددون بالتهميش في مستقبل قريب. إذا أخذنا بعين الاعتبار فرضية أن جزء من النساء الشابات ستكن مجبرات على الخروج من فئة السكان العاملين لأسباب عائلية، فسيعيش الملايين من الأفراد في
حالة من الإقصاء. ومن خلال هذا التصور، يبدو أن التحديات المطروحة عبر التطور الديموغرافي تتعلق بأكثر من مستوى. في هذا المنظور، يعرف مستوى الفقر في المغرب مساراً تصاعدياً وتضخمياً. فالفقر هو اليوم كبيرٌ جداً: 5,3 مليون من الأشخاص يعيشون تحت خط الفقر. وقد بدا أن معدل الفقر قد انخفض من 21 إلى 13 في المائة بين عامي 1984 و 1992، ولكنه سرعان ما ارتفع ليبلغ 19 في المائة عام 2000. وتظهر النتائج الاجتماعية للفقر من خلال عدد من أشكال العنف. فالفقر يؤسس لشروط ملائمة لانبثاق اقتصاد غير شرعي وحتى إجرامي. والفقر يشجع أيضاً على تحفيز القيام بعمليات هجرة، والتفاوت في الثروات بين المملكة المغربية والاتحاد الأوروبي لا يتوقف عن الازدياد: مع حصة لا تتجاوز 1500 دولار من الناتج المحلي الإجمالي للمواطن في المغرب وما يعادل 27 ألف دولار في أوروبا، فالوضع لا يمكن إلا أن يكون جاذباً لشباب الشاطئ الجنوبي للمتوسط، على الرغم من أنه ليس من المؤكد أن تدفقات المهاجرين ما زالت تشكل ظاهرة مركزية بسبب الحمايات الموضوعة قيد التطبيق من قبل دول الشاطئ الشمالي.
خلال سنوات التسعينات من القرن الماضي، ارتفع معدل الفقر المستند إلى الدخل من 13 إلى 19 في المائة من السكان. ويبلغ المعدل اليوم 15 في المائة من السكان. ثلثي الفقراء يعيشون في الريف، ولكن النسبة في المدن تتزايد. وتبين الدراسات التفاوت الكبير لمستويات الفقر بين الأقاليم. وتظهر هذه الدراسات أن ربع السكان على الأقل يمكن اعتبارهم غي حالة من الهشاشة الاقتصادية. وهؤلاء السكان يعيشون على خط الفقر و50 في المائة منهم على الأقل يعيشون تحت هذا الخط. وهذه الفئة
السكانية غير مهيئة لمواجهة صدمات كمرض أحد أفراد العائلة، الجفاف أو فقدان العمل. وتشكّل هذه الفئة تحدياً كبيراً للاستقرار الاجتماعي. وهي تكافح من أجل تجاوز الحالة التي تعيشها، كما أنها تشعر بالغضب من انعدام المساواة. إن السكان شديدو الفقر يركزون جهودهم على التحدي اليومي لتأمين حاجاتهم الأساسية. وبأخذهم مشتركين، يشكّل الفقراء والهشّون اقتصادياً 40 في المائة من سكان المغرب. ويبدو أنه من الضروري لا محالة تمكينهم من الاستفادة من الفرص المتزايدة بفضل النمو
وتسهيل حصولهم على الخدمات الأساسية أيضاً.
إن أسباب ازدياد معدل الفقر تعود إلى تدهور توزيع الدخل وإلى معدل نمو منخفض. ولقد اهتم الديموغرافيان إيمانويل تود ويوسف كرباج بمعنى التحول الديموغرافي في المغرب وأظهرا أن انتقال معدل الخصوبة إلى أقل من 3 مواليد للمرأة الواحدة،يحمل بحد ذاته انقطاعاً مع العقيدة الأبوية وممارسات العيش لدى أهل الزوج التي كانت تشكل هيكل الحياة العائلية المغربية. ويتم شرح ذلك من خلال تلازم ظاهرتين:
الأزمة الاقتصادية في منتصف السبعينات وارتفاع معدل النجاح في محو الأمية لدى الرجال، مما أتاح للمغرب انفتاحاً سياسياً واضحاً بشكل أكبر. وانخفض معدّل الزواج بين أفراد العائلة الواحدة ولم يعد يتجاوز 26 في المائة. وهذا يعتبرمؤشراً على الفردية والبحث عن الاستقلالية، وعن تطور في العقليات. وعوضاً عن الاعتماد على الحكومة في تلبية حاجاته، يعتمد المواطن على نفسه وعلى موارده الذاتية: "إن التغير الديموغرافي يعلن، في المدى المتوسط، عن ظهور مجتمع أكثرنضجاً من أجل الديمقراطية". بطالة وديمقراطية يبدو أن البطالة هي ظاهرة دائمة ومعدية في المنطقة المغاربية:
"في حال استمرت الاتجاهات الحالية في سوق العمل، ومع توقع عدد إجمالي من السكان يبلغ 86 مليون في عام 2010 ومعدل نشاط يبلغ 35 في المائة، سيكون لدى البلدان الثلاثة بين 4,8 و6 مليون عاطل عن العمل، أي بمعدل قدره 15 في المائة بالنسبة للمغرب وتونس و25 في المائة بالنسبة للجزائر" (البنك الدولي، اليد العاملة المتاحة، بطالة وخلق فرص عمل في بلاد المغرب). في عام 2006، كان معدل البطالة 12,8 في المائة، منهم 20,4 في المائة في المناطق الحضرية و4,1 في المناطق الريفية. ويبدو أن هذه الظاهرة محافظٌ عليها، حيث أنه منذ استقلال البلدان المغاربية فهي تعاني من بطالة مرتفعة نسبياً لدى الشباب والحاصلين على الشهادات والنساء. إن تناقض الوضع المغاربي يتجسّد في ازدياد عدد السكان في سن العمل ضمن منظومة اقتصادية غير مرنة تُعيق النمو. منذ العام 2003، معدل النمو في البلدان المغاربية مرتفع ويقارب 5 إلى 6 في المائة في العام، مما يسمح في التخفيف من البطالة: من 29 إلى 23 في المائة في الجزائر ومن 15,4 إلى 14,3 في المائة في تونس. ومع نمو منخفض نسبياً، جرى خلق عدد محدود من الوظائف في المغرب. وقد سجل
معدل البطالة مستوى وصل إلى 23 في المائة في عام 1995 ولكنه انخفض إلى 18 في المائة سنة 2002 بسبب ديناميكية قطاع الصناعة. وفي عام 2003، ارتفعت البطالة من جديد إلى 20 في المائة. وبالمجمل، فهذا المعدل تراوح خلال هذه الفترة بين 22 و19 في المائة. واستناداً إلى البنك الدولي، يجب على البلدان المغاربية أن تخلق ما بين عامي 2000 و2020 حوالي 16 مليون فرصة عمل جديدة للملتحقين الجدد بسوق العمل. وآخذين بالاعتبار مستوى البطالة المقدر بـ 20,4 في المائة في هذه المنطقة، يفترض خلق 22 مليون فرصة عمل خلال العقدين المقبلين للتخفيف من البطالة ولتشغيل القادمين الجدد إلى السوق. حيث تنتشر البطالة في البلدان المغاربية خصوصاً لدى الشباب. وإذا كان الشباب يشكلون 37 في المائة من العاطلين عن العمل في المغرب، فإنهم يبلغون 66 في المائة من العاطلين على العمل في تونس وفي الجزائر. إن ظاهرة البطالة المنتشرة لدى الشباب في المغرب تشكل من دون شك تحدياً كبيراً للدولة. ويبدو أنها تغذّي بواعث القلق لدى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية: تشدد إسلامي، هجرة، عنف اجتماعي، الخ. وفي حين أنه من المفترض أن تشكّل الشهادة الجامعية وسيلة اندماج اقتصادي في المنطقة المغاربية، فالخرّيجون
الجدد هم المعرضون أكثر من غيرهم لظاهرة البطالة. وبالتالي، فقد قدرت الدراسة التي أجريت حول العمل في المناطق الحضرية سنة 2000، عدد السكان في سن العمل ذوي المستوى العالي بحوالي 297501 منهم 47,7 في المائة حاصلين على شهادات جامعية أومن معاهد عليا للتكوين. وضمن هذه الفئة من القوى العاملة، يبلغ معدل البطالة 28,9 في المائة. ولقد ورد في نفس البحث حول العمل في المناطق الحضرية، أن نهاية التحصيل الدراسي تتوج بحالة من البطالة تخصّ 77,6 من القوى العاملة المدينية والمتحصّلين على شهادة عليا. في الوضع المغربي الحالي، يبدو من الواضح أن العلاقة ضعيفة بين العمل والدراسات العليا. إن معالجة البطالة لدى الحاصلين على شهادات تعتبر أصعب وخصوصاً لأن هؤلاء لا يعملون في القطاع غير المنظم. إنهم، وفي الوسط الحضري، يشكلون فقط 5,3 في المائة من طاقات العمل في النشاطات غيرالمنظمة، في حين يشكل الذين لا يحملون الشهادات 66 في المائة. فالشباب والتكوين والإبداع، تبدو أنها خصائص يلفظها القطاع غير المنظم. وفي الواقع، فلقد كان القطاع الحكومي ولفترة طويلة هو المستقطب الطبيعي للحاصلين على الشهادات في البلدان المغاربية. وبناء على المعطيات المتاحة، لم ينفك التوظيف في القطاع الحكومي عن التراجع منذ سنوات التسعينات. ولقد انتقل التشغيل في القطاع الحكومي في المغرب من 13 في المائة عام 1991 إلى 9,9 في المائة في سنة 2000. وجرى تعويض الانخفاض في الوظائف في القطاع الحكومي بشكل أساسي من خلال القطاع غير المنظم وليس من خلال القطاع الخاص. خلال سنوات التسعينات من القرن الماضي، تم تقدير العمل غير المنظم في المغرب بحوالي 45 في المائة، حيث أربع أخماس المنخرطين فيه يعملون لحسابهم. وما تبقى من العمل غير المنظم هو نتاج المؤسسات التي تشغّل أقل من 10 أجراء. إن البطالة هي جزء كبير الحجم من الظواهر التي تشوش وتعيق
إمكانيات الإصلاح السياسي. كذلك، فإن العلاقة بين الإصلاح السياسي والإصلاح الاقتصادي تُبرز حجم الحالة المشابهة من التحول على المستويين الاقتصادي والسياسي. وذلك دون أن تكون التأثيرات التبادلية بديهية، ودون أن نستطيع أن نحسم في أمر إن كان الأول يؤسّس للثاني. إن سيطرة الاقتصاد غير المنظم تعتبر خاصيّة ذات أهمية في عالم الاقتصاد. فهي تذكّر على المستوى السياسي والمؤسساتي بمحدودية دولة القانون، كما تدل على ذلك المؤشرات العديدة المنبثقة من خلال مختلف التقارير الحديثة حول المنطقة العربية، وخصوصاً تلك المتعلقة بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية، وبشفافية الأنشطة الاقتصادية، بالعلاقات بين أرباب العمل والدولة، وبالتوجهات الاجتماعية لإنفاقات الموازنة، وبأهمية الاقتطاعات من الموارد للإنفاق الأمني.
تُظهر دراسة العلاقة بين الإصلاح الاقتصادي والإصلاح السياسي أيضاً أن المغرب كما بقية البلدان المغاربية، سيواجه في المدى القصير، تعزيزاً للبطالة والتي سيكون لها نتائج سياسية واجتماعية متفجرة كما التشدد السياسي. وهناك ظاهرة مثيرة للاهتمام تتجسد من خلال انخراط العاطلين عن العمل من حملة الشهادات في حركات المعارضة السياسية، خصوصاً تلك التي لها ميول إسلامية. ولقد فُسّر صعود الحركات الإسلامية في ثمانينات القرن الماضي بقدراتهم الكبيرة على حشد وتحريك الشباب. ويبدو أن المنظمات الإسلامية الشرعية، كما حزب العدالة والتنمية، أو"المتسامح" معها كحركة العدالة والإحسان، تقدم الأمل إلى الشباب من خلال منظورالدولة الإسلامية المطروحة كأنها منتجة لفرص العمل. وكذلك، فإن أثر الشكل العام للاقتصاد، وما يحمله من أهمية للاقتصاد غير المنظم، وظواهر الإقصاء، العمل المؤقت، البطالة الضخمة، التغيرات الديموغرافية، تؤثّر كلّها بشكل كبير في طبيعة ومحتوى وتدرّج التحولات السياسية.

2 تعليقان “الاقتصاد السياسي و الاجتماعي للتحول الحالة المغربية”